Monday 24 November 2025
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: أزمة اليسار المغربي والوحدة الإعلامية

عبد الحي السملالي: أزمة اليسار المغربي والوحدة الإعلامية عبد الحي السملالي
الوحدة الإعلامية، في معناها العام، هي قدرة التنظيم السياسي أو الاجتماعي على إنتاج خطاب متماسك، ينساب عبر مختلف قنواته الإعلامية والرقمية، بحيث يعكس انسجاماً داخلياً ويمنح صورة موحدة أمام الرأي العام. إنها ليست مجرد تنسيق تقني للرسائل، بل تعبير عن عمق الانسجام الفكري والتنظيمي، وعن قدرة الفاعل على فرض أجندته في الفضاء العمومي.
 
أما في سياق السياسة، فإن الوحدة الإعلامية تكتسب بعداً مضاعفاً، لأنها لا ترتبط فقط بسلامة الخطاب، بل بمدى قدرة الحزب أو الحكومة على التحكم في صورتها العمومية، وتجنب التناقضات التي قد تضعف المصداقية. فهي أداة للتعبئة، ووسيلة للتأثير في الرأي العام، وشرط أساسي لبناء الثقة بين الفاعل السياسي وجمهوره. في الحالة المغربية، يصبح غياب هذه الوحدة مؤشراً على هشاشة البنية الحزبية، ويكشف عن عمق الانقسامات الداخلية التي تنعكس مباشرة على الأداء الإعلامي والسياسي.
 
ما بين تاريخ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي حمل منذ 1959 مشروعاً تحررياً جريئاً، وأزمة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في زمن إدريس لشكر، يتجلى سؤال الوحدة الإعلامية كمرآة عميقة لأزمة السياسة المغربية. فالإعلام الحزبي ليس مجرد واجهة تقنية، بل هو انعكاس للبنية الفكرية والتنظيمية، وقدرة الحزب على إنتاج خطاب جماعي يفرض نفسه في الفضاء العمومي. حين نقرأ هذا البعد فلسفياً، نستحضر مفاهيم مثل “الهيمنة الثقافية” عند أنطونيو غرامشي، أو “التاريخانية النقدية” عند عبد الله العروي، لفهم كيف يتحول الإعلام إلى أداة للتعبئة أو إلى علامة على التصدع الداخلي.
 
منذ تجربة حكومة عبد الله إبراهيم سنة 1958، التي سعت إلى تحرير القرار الاقتصادي الوطني وفك الارتباط النقدي مع فرنسا، مروراً بوثيقة “الاختيار الثوري” التي صاغها المهدي بن بركة كإطار نظري لمشروع يساري نقدي، ظل اليسار المغربي يطمح إلى بناء بديل تاريخي متماسك. غير أن مسار القمع والانشقاقات أضعف هذا الطموح، وقاد إلى تأسيس الاتحاد الاشتراكي سنة 1975، الذي بلغ ذروته مع قيادة حكومة التناوب سنة 1998، في لحظة بدت وكأنها تصالح بين اليسار والدولة. لكن هذه اللحظة سرعان ما تحولت إلى بداية الانحدار، حيث تراجع الحزب عن دوره الطلائعي، وفقد تدريجياً قدرته على إنتاج خطاب جماعي نقدي يواكب التحولات المجتمعية.
 
ومع صعود إدريس لشكر إلى القيادة، دخل الاتحاد الاشتراكي مرحلة جديدة اتسمت بالتشتت الإعلامي وفقدان الانسجام الداخلي. غابت وحدة الرسالة، وتضاربت تصريحات القيادات، وانقسمت القاعدة بين مؤيد ومعارض، فبدا الحزب وكأنه فقد السيطرة على صورته العمومية. هذا التشتت لم يكن مجرد خلل تنظيمي، بل كشف عن أزمة أعمق في البنية الفكرية والتنظيمية، حيث هيمن منطق الزبونية والصراع على المواقع على حساب إنتاج “المثقف العضوي” بالمعنى الغرامشي. الإعلام الحزبي، الذي كان يفترض أن يكون أداة للتأطير والتعبئة، تحول إلى ساحة للتناقضات الداخلية، ما أضعف قدرة الحزب على التأثير في النقاش العمومي، وفتح المجال أمام قوى سياسية أخرى أكثر انسجاماً في خطابها.
 
ولعل لحظة الصراع حول ملتمس الرقابة التي شهدها البرلمان قبل شهور، تُشكل مثالاً دالاً على هذا التشتت. فقد بدا الاتحاد الاشتراكي عاجزاً عن صياغة موقف إعلامي موحد، في حين أن حزب التقدم والاشتراكية استطاع أن يحافظ على انسجام نسبي في خطابه، مما عزز صورته كفاعل يساري أكثر تماسكا. هذا التماسك الإعلامي يعكس قدرة الحزب على الموازنة بين البراغماتية السياسية والوفاء لقيم العدالة الاجتماعية، وهو ما يقترب من مفهوم “الكتلة التاريخية” عند غرامشي، أي التحالف الثقافي والسياسي القادر على تحقيق الهيمنة الأخلاقية.
 
أما من منظور عبد الله العروي، وكما سبق أن أكدنا في مقالات سابقة حول الموضوع، فإن أزمة الاتحاد الاشتراكي تكشف عن عجز في استيعاب منطق التاريخ وتجاوز البنى التقليدية. فالعروي، في قراءته التاريخانية النقدية، يرى أن التغيير لا يتم إلا عبر فهم سيرورة التاريخ والقطع مع البنى الموروثة، غير أن الحزب ظل أسير زعامات فردية ومنطق تقليدي يحد من قدرته على التجديد. بهذا المعنى، يبدو الاتحاد الاشتراكي أقرب إلى نموذج “المثقف التقليدي” المنفصل عن دينامية المجتمع، في حين أن الحاجة اليوم هي إلى خطاب جماعي منفتح على المجتمع المدني، قادر على إنتاج مثقفين عضويين يعيدون وصل الفكر بالممارسة، ويستعيدون الوظيفة النقدية التي فقدها الحزب في زمن التشتت الإعلامي.
 
وإذا قارنا هذه الحالة بالنموذج الفرنسي، نجد أن أحزاباً مثل La France Insoumise استطاعت أن تبني وحدة إعلامية قوية حول شخصية قيادية مركزية، وأن توظف وسائل التواصل الاجتماعي بشكل منسق، مما عزز صورتها ككتلة واحدة. في المغرب، على العكس، يكشف التشتت الإعلامي عن هشاشة البنية الحزبية، ويضعف من قدرتها على فرض أجندتها في الفضاء العمومي.
 
في راهن اللحظة، وبين ما حدث في ملتمس الرقابة وما تلاه من ارتباك إعلامي، تتجلى هشاشة المعارضة اليسارية، وتبرز الحاجة إلى إعادة تعريف المشروع الإعلامي والسياسي للأحزاب المغربية. فالوحدة الإعلامية ليست مجرد انسجام في التصريحات، بل هي شرط لبناء مشروع جماعي يستعيد روح بن بركة، عقلانية بوعبيد، حكمة اليوسفي، وصلابة علي يعتة. هؤلاء لم يكونوا مجرد زعماء، بل كانوا تجسيداً لفكرة المثقف المنخرط في التاريخ، المؤمن بأن السياسة التزام أخلاقي ووعي نقدي.
 
يبقى السؤال مفتوحاً: هل تستطيع الأحزاب المغربية اليوم أن تتجاوز منطق التشتت الإعلامي نحو بناء خطاب جماعي متماسك؟ وهل يمكن أن يُعاد تشكيل كتلة تاريخية جديدة، تجمع بين المثقف العضوي والتحليل التاريخاني، لتؤسس لبديل تقدمي حقيقي في زمن التصدعات؟