نشاهد منذ عقود المجهود الكبير والمضني الذي تبذله الدولة لمعالجة مخلفات الفساد في قطاع السكنى والتعمير، وما سُمِّي بالسكن غير اللائق، الذي كلف عشرات الملايير من الدراهم وآلاف الهكتارات، وهدراً للزمن والجهد، وتسبب في ضياع فرص للتنمية بكل أبعادها، وفي عيش غير كريم.
كثير من المدن شاهدة على ذلك. مناطق قصديرية وأحياء البناء العشوائي نبتت في أراضي الدولة والجماعات السلالية وحتى الخواص، داخل المدن وفي محيطها، بل وحتى في سواحل المملكة.
أضف إلى ذلك انتشار تجمعات سكنية ومساكن معزولة، راقية وغير راقية، في القرى المحاذية للمدن.
كل ذلك حصل في أجود الأراضي من حيث الموقع والمؤهلات الطبيعية، وعلى مرأى من بعض المسؤولين في السلطة والجماعات وقطاع السكنى والتعمير. أقول البعض حتى أكون عادلاً، لأن بعض المسؤولين من ولاة وعمال وغيرهم تصدّوا بحزم لهذا الإفساد الذي ترك، مع الأسف، آثارًا سيئة على التنمية العمرانية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى أمن المواطنين وجمالية المدن.
وحتى عندما تقرر محاربة السكن غير اللائق عبر مشاريع إعادة الإسكان أو إعادة الهيكلة، كانت النتيجة ـ في جزء مهم من هذه المشاريع ـ تجمعات سكنية تنعدم فيها بعض شروط العيش الكريم، من حيث الأمن والأنشطة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وينطبق الحال نفسه على بعض مشاريع السكن الاجتماعي التي دعمت فيها الدولة شركات بمليارات الدراهم وبآلاف الهكتارات التي حصلت عليها بأثمنة قليلة وتراخيص استثنائية. وبدل أن تقابل هذه الشركات هذا الدعم وما حققته من أرباح كبيرة بالتزام وطني ومنتوج سكني يحترم الإنسان ويساهم في التنمية، عمدت إلى تقديم تجزئات ومساكن بتصاميم تقليدية وجودة ضعيفة في البناء والبنية التحتية والمرافق.
وقد كلف ذلك جزءًا كبيرًا من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لسد الخصاص وبعث روح ثقافية واجتماعية وحتى اقتصادية في المناطق الثلاث المذكورة: إعادة الإسكان، وإعادة الهيكلة، والسكن الاجتماعي.
وكلف أيضًا جزءًا مهمًا من برامج تأهيل المدن الذي خصصت له عشرات المليارات من الدراهم، وصرفت خاصة في مشاريع الطرقات والساحات العمومية وشبكات الماء والكهرباء والتطهير السائل والمرافق المتنوعة والأسواق وغيرها.
وكلف أخيرًا مجهودًا أمنيًا متناميًا من حيث المرافق والمعدات والموارد البشرية والحملات والتدخلات لمحاربة الإجرام والأنشطة المحرمة.
قد يكون البعض قد اغتنى على حساب الوطن والمواطن، وقد نفاجأ بحجم هذا الاغتناء إذا ما فُتح باب المحاسبة لكل الأطراف المعنية وفي مستويات عدة. وقد نفاجأ أيضًا بحجم المجهود الوطني الضخم لمعالجة تداعيات هذا الإفساد في السكنى والتعمير الذي بدأ ينمو منذ أكثر من خمسة عقود، بسبب التواطؤ أو عدم الحزم.
نستخلص من ذلك أربعة دروس:
1. أنه كلف الدولة والوطن والمواطن كثيرًا من الجهد والعناء، ومظاهر سيئة وآثارًا سلبية مستدامة.
2. أنه عرقل مسار التنمية التي كانت في حاجة إلى هذا الكم الهائل من الأموال والأراضي والجهد التقني والإداري والأمني.
3. أن الحزم الذي سلكه بعض المسؤولين وعالجوا به الظاهرة، هو حجة على الذين تكاسلوا وغضوا الطرف بحجج واهية أو تواطؤوا.
4. أن بعض الحقوقيين والسياسيين والجمعويين والفاعلين والسلاليين والموظفين الذين كانوا يشجعون السكن العشوائي، قد ارتكبوا جرمًا في حق الوطن والمواطنين، وفي حق أنفسهم أيضًا.
في المقال المقبل، سأتطرق إلى دور التعمير في تسريع التنمية..