Monday 29 September 2025
كتاب الرأي

محمد براو: المغرب أمام اختبار الإنصات الاستراتيجي

محمد براو: المغرب أمام اختبار الإنصات الاستراتيجي محمد براو
في لحظة دقيقة من التحولات العالمية والإقليمية، يبدو المغرب أمام مفترق طرق دقيق، حيث تلتقي صلابة مؤسساته السياسية والإدارية مع ارتفاع منسوب الانتظارات الاجتماعية لدى شرائح واسعة من المواطنين، لا سيما فئة الشباب. هذا التلاقي لا يعني بالضرورة وجود أزمة، لكنه يشكل مناسبة حقيقية لتجديد آليات الإصغاء، وتفعيل القنوات المؤسساتية، وإعادة توجيه البوصلة الإصلاحية بما يعزز الثقة، ويرسّخ استقرار النموذج المغربي المتفرد. 
دينامية اجتماعية متنامية بصيغة سلمية.
 
ما يلفت الانتباه في التحركات الاجتماعية الأخيرة هو طبيعتها السلمية والمنظمة، وانطلاقها من مطالب واضحة ومشروعة، تتعلق أساساً بقطاعات حيوية كالصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. انطلقت بعض هذه التعبيرات من فضاءات لها رمزية قوية – كمستشفيات عمومية أو أحياء مهمشة – قبل أن تتحول إلى مؤشرات على اتساع رقعة القلق المجتمعي إزاء العدالة المجالية والنجاعة العمومية. 

وتبرز هنا فئة "الجيل Z" كفاعل مركزي، ليس فقط بسبب حضورها الرقمي والتواصلي، بل أيضاً لأنها تحمل وعياً مدنياً متقدماً، وتبحث عن موقع لها في معادلة التنمية. هذه الدينامية لا يجب أن تُواجَه بالتوجس، بل ينبغي احتضانها، لأنها تعبّر – في العمق – عن استمرار التفاعل بين الدولة والمجتمع في إطار سلمي ومؤسساتي. 

الوساطة المؤسساتية: الحاجة إلى التنشيط لا الاستبدال 
في مقابل هذه الحيوية المجتمعية، تسجل الملاحظة تراجعاً ملموساً في فعالية بعض مؤسسات الوساطة السياسية والرقابية، التي يفترض أن تلعب دور الواجهة بين الدولة والمواطن. يتعلق الأمر بمؤسسات المراقبة واليقظة watchdog agencies المكلفة بالنزاهة والمنافسة، فإن غياب المبادرة أو ضعف التفاعل مع نبض الشارع يطرح علامات استفهام ليس فقط حول العجز الحكومي بل حول مدى قدرة هذه الأجهزة على تأدية أدوارها بفعالية. 
إن التحدي هنا ليس في وجود هذه المؤسسات – فهي متوفرة ومحمية دستورياً – بل في ضرورة تجديد أدوارها وإعادة ربطها بالحياة اليومية للمواطن، حتى لا تتحول إلى بنيات رمزية بدون أثر ملموس.
 
المشهد السياسي: هل من أفق لتجديد الثقة؟ 
منذ أزمة "البلوكاج" الحكومي سنة 2016، يواجه المشهد السياسي أزمة أداء أكثر منها أزمة شرعية. فبين هشاشة الائتلافات، وضعف المعارضة، وتراجع ثقة الناخبين في البرامج والوجوه التقليدية، بات من الصعب على الأحزاب استعادة زمام المبادرة. الحكومة الحالية، رغم مشروعيتها الدستورية، تعاني من تآكل في شعبيتها، نتيجة تعثر بعض الإصلاحات الاجتماعية، وتنامي الشعور بانفصال القرار السياسي عن أولويات المواطن. 

المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح المنظومة الحزبية، بل أيضاً تجديد آليات التأطير السياسي، وتعزيز دور المجتمع المدني كفاعل يقترح ويواكب، لا فقط كمنفذ أو ناقم. 

الملكية: مرجعية التوازن والتجديد 
في خضم هذا المشهد، تبقى الملكية المؤسسة التي تملك الرصيد الرمزي والعملي لتوجيه البوصلة الوطنية، ليس فقط من موقع الضمان الدستوري، بل من خلال القدرة على المبادرة، والإنصات، والتحكيم. الملك محمد السادس قاد على مدى العقدين الماضيين سلسلة من الإصلاحات الهيكلية الكبرى (مدونة الأسرة، العدالة الانتقالية، التغطية الصحية، الجهوية المتقدمة...)، التي رسمت ملامح مغرب جديد أكثر انفتاحاً ومأسسة. 

وفي ظل التوترات الاجتماعية الراهنة، يبدو من المنتظر أن تضطلع الملكية بدور استراتيجي في تهدئة الأوضاع، وتوجيه الفاعلين السياسيين نحو تجديد العرض المؤسساتي والاجتماعي، بما يعيد رسم أفق جديد للعقد الاجتماعي، ويؤكد أن الاستجابة للمطالب لا تعني التنازل عن الاستقرار، بل هي تعزيز له. 

هل آن أوان الانتخابات المبكرة؟ 
تُطرح اليوم، ولو على استحياء، فكرة تنظيم انتخابات سابقة لأوانها، كتعبير عن الحاجة إلى تجديد النخب السياسية، وإعادة هيكلة الحقل الحزبي، وفتح المجال أمام طاقات جديدة. هذه الفكرة، وإن كانت تستند إلى أدوات ديمقراطية مشروعة، إلا أنها تظل رهينة بتقدير عقلاني للمصلحة الوطنية العليا. 

ففي الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى التهدئة والتماسك، قد لا يكون تغيير الوجوه كافياً، ما لم تصحبه مراجعة حقيقية للسياسات العمومية، وتصور جديد للعلاقة بين المواطن والدولة. 

ختاما: من التحدي إلى الفرصة 
ليس من المبالغة القول إن المغرب اليوم لا يمر بأزمة سياسية بالمفهوم الكلاسيكي، بل يعيش لحظة مفصلية من إعادة التوازن بين المطالب الاجتماعية، والأداء المؤسساتي، ودينامية الإصلاح. هذه اللحظة ليست سلبية، بل يمكن أن تتحول إلى فرصة لتجديد النموذج، شريطة أن يتم الإصغاء بذكاء، والتفاعل برصانة، والتجديد بشجاعة. 

إن المملكة المغربية، برصيدها التاريخي، ومؤسساتها الدستورية، وقيادتها الإصلاحية، تملك الإمكانيات للعبور الهادئ نحو مرحلة جديدة من التقدم. لكنّ ذلك يمرّ حتمًا عبر إصغاء استراتيجي، لا فقط لتطلعات الشارع، بل أيضاً لنبض الزمن.