Monday 29 September 2025
كتاب الرأي

حميد فايو: لماذا يخسر المغرب معركة التشغيل رغم نموّه الاقتصادي؟

حميد فايو: لماذا يخسر المغرب معركة التشغيل رغم نموّه الاقتصادي؟ حميد فايو

 رغم تحقيق الاقتصاد المغربي لمعدلات نمو إيجابية خلال العقدين الماضيين، إلا أن هذه النتائج لم تترجم إلى تحسن ملموس في مؤشرات التشغيل. فبحسب دراسة حديثة للمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، ظلت معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة، حيث بلغت 13.4% على الصعيد الوطني سنة 2024، ووصلت بين فئة الشباب إلى 39.5%. هذه المفارقة تطرح تساؤلات كبيرة حول طبيعة النموذج التنموي القائم وقدرته على خلق فرص شغل لائقة.

 

مفارقة الأرقام: نمو في الناتج الداخلي وارتفاع في البطالة

تكشف الأرقام الصادرة عن المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية عن مفارقة صارخة: فبينما يحافظ الاقتصاد على وتيرة نمو إيجابية، تظل معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة تنذر بالخطر. فقد بلغ معدل البطالة على الصعيد الوطني 13.4% سنة 2024، لكن الرقم الأكثر إثارة للقلق يكمن في بطالة الشباب التي وصلت إلى 39.5%، مما يعني أن شاباً واحداً من بين كل ثلاثة شباب عاطل عن العمل، في ظاهرة تهدد النسيج الاجتماعي وتُهدر طاقات بشرية هائلة.

 

ثقل القطاع غير المهيكل.. وهشاشة التشغيل

تُظهر البيانات أن القطاع غير المهيكل يسيطر على أكثر من 60% من إجمالي الوظائف في المغرب، مما يعني أن أغلب العاملين محرومون من أبسط حقوقهم في الحماية الاجتماعية والاستقرار الوظيفي والتقاعد. وتكشف الدراسة أن جودة الوظائف المتاحة تبقى متدنية بشكل لافت، حيث أن 87% من إجمالي الوظائف لا تتطلب تأهيلاً عالياً، مما يُعمق فجوة الهشاشة ويجعل العديد من الأسر في وضعية اقتصادية صعبة رغم النمو المسجل في الناتج الداخلي الخام.

 

تفكك النسيج الاقتصادي.. وضعف الروابط بين القطاعات

تكشف التحليلات الاقتصادية عن أحد الأسباب الهيكلية الكامنة وراء أزمة التشغيل، حيث أن القطاعات الأكثر ديناميكية مثل الصناعة لا تولد تأثيراً مضاعفاً قوياً على التشغيل في القطاعات الأخرى. فبينما يصل المضاعف التشغيلي في القطاع الصناعي إلى 3.21، نجد أن القطاع الزراعي لا يتجاوز مضاعفه 1.28، مما يعكس ضعف التكامل بين مختلف مكونات النسيج الاقتصادي. هذا التفكك يحد من قدرة الاقتصاد على خلق فرص شغل بشكل متناغم ومستدام، ويُبقي النمو حبيس أرقام مجردة دون تأثير حقيقي على حياة المواطنين.

 

إشكالية التكوين.. وفجوة الملائمة  مع سوق الشغل

تُظهر الدراسة وجود فجوة كبيرة بين مخرجات النظام التعليمي ومتطلبات سوق العمل، حيث أن العديد من الخريجين يجدون صعوبة في الاندماج المهني. ويرتفع معدل بطالة حاملي الشهادات إلى 19.8%، في مؤشر صادم على عمق الإشكالية. كما أن برامج التكوين المهني لا تستجيب بشكل كافٍ لحاجات القطاعات المنتجة، مما يوسع الفجوة بين العرض والطلب في سوق الشغل، ويُهدر موارد كبيرة في تكوين لا يلبي حاجات الاقتصاد الحقيقية.

 

تحديات مستقبلية تهديد إضافية للتشغيل

يواجه المغرب تحديات كبرى ستؤثر حتماً على مستقبل التشغيل، يأتي في مقدمتها تغير المناخ الذي يهدد القطاع الزراعي والسياحي، والذكاء الاصطناعي الذي يتطلب إعادة تأهيل واسعة للعمالة، وشيخوخة السكان التي ستزيد الضغط على أنظمة التقاعد والحماية الاجتماعية. هذه التحديات المتشابكة تتطلب استباقية في وضع السياسات العمومية، واستشرافاً للمستقبل، وإرادة حقيقية لمواكبة التحولات العالمية الكبرى.

 

دروس مستفادة.. إضاءات من التجارب الدولية الناجحة

تقدم تجارب دول مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية والمكسيك وفيتنام إضاءات مهمة للمغرب. فماليزيا نجحت في استهداف الصناعات المستقبلية والانتقال من اقتصاد قائم على المواد الأولية إلى اقتصاد المعرفة، بينما ركزت كوريا الجنوبية على التعليم والتكنولوجيا وربطت البحث العلمي بالصناعة. من جهة أخرى، اعتمدت المكسيك على مرونة سوق العمل ومشاركة المواطنين في صنع السياسات، فيما نجحت فيتنام في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاعات تصنيعية كثيفة العمالة. هذه النماذج تثبت أن النجاح في معركة التشغيل ممكن عندما تكون هناك إرادة حقيقية وإصلاحات هيكلية جريئة..

 

رؤية متكاملة للإصلاح.. نحو نموذج تنموي جديد

الحلول المقترحة لتجاوز هذه الأزمة الهيكلية تتطلب مقاربة شاملة تبدأ بتنويع الاقتصاد نحو قطاعات ذات قيمة مضافة عالية، وتحسين جودة التعليم ومواءمته مع سوق العمل، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المُولدة لفرص الشغل، وتعزيز الحماية الاجتماعية، وتشجيع الاقتصاد الأخضر والرقمي. هذه الإصلاحات يجب أن تكون مترابطة ومندمجة في إستراتيجية واضحة المعالم، تُشرك جميع الفاعلين من قطاع خاص ومجتمع مدني وخبراء.

 

خاتمة: معركة مصيرية تتطلب إرادة سياسية جريئة

تحويل النمو الاقتصادي إلى فرص شغل حقيقية يتطلب إرادة سياسية قوية وإصلاحات هيكلية جريئة تلامس الجذور الحقيقية للمشكل. النجاح في هذه المعركة الحاسمة ممكن إذا تمت معالجة الأسباب الجذرية للمشكل وتعلم الدروس من التجارب الدولية الناجحة. المستقبل يتوقف على قدرة المغرب على بناء نموذج تنموي جديد يضع التشغيل اللائق في صلب أولوياته، ويحول الطاقات الشبابية من عبء إلى فرصة، ومن تهديد إلى رافعة حقيقية للتنمية المستدامة...

حميد فايو، دكتور في الاقتصاد وأستاذ زائر