يعترفُ سيد قطب «1906- 1966» في الصفحة الأولى من ديوانه الشعري «الشاطئ المجهول» (1935) بأنَّ أشعارَهُ ستبقى على مر الأيام رمزًا لعواطفه.. وانطلاقًا من هذه الحقيقة التي يُقرُّها هو، فأنا أحاولُ أن أتقصَّى تحولات شاعرٍ جاء من «القُبلة» وذهب بعيدا نحو «القُنبلة»، حيثُ النُّونُ كانت ملأى بالبارودِ والسلاحِ والتكفيرِ والإقصاء.
أحبَّ سيد قطب وأخفقَ، ثم قرَّرَ أن يعتزلَ النساءَ، فلم يتزوَّج، بعد تجاربَ عشقٍ لم يكُن فيها فارسًا يمتلكُ أدوات المُحبِّ، وهناك صفحاتٌ في شأن علاقتِهِ بالمرأةِ ما تزالُ مجهُولةً، يعرفُها مُعاصرُوه والمُقرَّبُون منه، لكن يبدو أنَّ أحدًا من هؤلاء لم يشأ أن يكتبَ عن هذا الأمر، رغم أنَّهُ مُهمٌ لفهم طبيعة الإنسان وتحولاته، إذْ إنَّ حبَّ المرْأةِ يُغيِّرُ الإنسانَ من حالٍ إلى حالٍ أخرى كليةً، ويجعله يُقدِمُ على فِعْلِ أشياء لا تُقرُّها النفسُ المُطمئنةُ الواثقةُ الهادئةُ الممتلئةُ.
فمن يُطالعُ ديوانَ «الشَّاطئ المجهُول» مُنذُ مقدمته التي كتبها سيد قطب نفسه تحت عنوان: «المُقدمة بقلم الناقد: سيد قطب»، وقد جاءت في تسعِ صفحاتٍ، يُدركُ أنَّهُ أمام شخصٍ غريبِ الأطوارِ، ليس عنده خجلٌ أو حياءٌ، كما ذكر أحد معاصريه، وهو الشَّاعرُ والمُؤرِّخُ محمُود الخفيف، حينما قرأ مقدمته التي كتبها بقلمه.
إذْ يُضْفِى سيد قُطب هالةً وأهميةً على نفسِهِ، حيث يقولُ: «تطالع القارئ نظريات علمية وفلسفية كثيرة»، وهى المرَّةُ الأولى التي أرى فيها شاعرًا يُقرِّظُ نفسَه، ويمتدحُ شِعرَه، ومن المؤكَّد أن الذي يفعلُ ذلك هو شاعرٌ يعانى أمراضًا، وصاحبُ نفسٍ معطُوبةٍ مغْرُورةٍ.
لأنه لا يُمكنُ أن نرى شاعرًا يكتبُ عن ذاتِه، مادحًا، ومُحلِّلا إيَّاها، ورُبَّما تكُونُ فعلتُهُ هذه هي أبرزُ أسبابِ ابتعادِ الشُّعراءِ والنُّقادِ اللافتينَ في عصرِهِ عن تناولِ الديوانِ نقدًا، أو قراءته قراءةً شعريةً مِمَّن كان سيد قطب يتوقَّعُ منهم أن يُؤازروه حينما يُصْدِرُ ديوانَه الأوَّلَ، خُصُوصًا عباس محمود العقاد، الذي كرَّسَ قطب سنواتٍ من عُمره في خدمتِهِ وتبعيته والدفاع عنه إذا ما دخل معركةً أدبيةً مع أحدٍ.
أراد سيد قطب أن يقولَ ها أنذا، أخالفكم كي أُعْرفَ، إذْ كان يُلحُّ على أن يكونَ موجُودًا بشكلٍ مُكثَّفٍ.. ففي المقدمة التي كتبها يقولُ عن نفسه إنَّهُ «يُحاولُ الخُلُود»، ويسلكُ إليه طرائقَ شتَّى.
إذ نحن أمام شخصٍ يريدُ أن يفعلَ أيَّ شيء في سبيلِ أن يبقى ذكرُه على ألسنةِ الناسِ أجمعين، وهو ما سيجعلُهُ، بعد إخفاقِهِ في الأدبِ، يذهب نحو الشاطئ الآخر من شاطئِه المجهُول في الشِّعْر، ليُكفِّرَ الدُّنيا كلَّها، ولا يرى مُسْلما سِواه، ويكتبُ أن الوطنَ ما هو إلا «حفنةٌ من التراب العَفِن». وهو عندي من القوم الذين بُلينا بهم ويظُنُّون أنَّ الله لم يُهد سواهم، كما يقولُ ابن سينا.
فهل هناك عاقلٌ يمكنُ له أنْ يكتبَ عن نفسه أنَّ ديوانَهُ الشِّعْري هو «مُتْحَفُ صُورٍ»؛ كأنَّه كان يتوقَّعُ أنْ لا أحدَ من كبار مُعاصريه سيكتبُ عنه، فأصابه جُنُونُ العظمةِ، وهو الذي يتسمُ مع غرابتِهِ وشُذُوذِه في التفكيرِ والسُّلوكِ، فهو من يعترفُ (ولا أحدَ غيره) أنَّ «ألوان ملابسه» تميلُ نحو الغُمُوض.
في هذه المُقدمة وعدَ سيد قطب الناقد سيد قطب الشَّاعر-فى تجربةٍ شاذَّةٍ لم تعرفها أو تألفها الحياةُ الأدبيةُ فى مصر أو في أي مكانٍ من العالم، والإقدامِ عليها لا يعنى أبدًا أنَّها فعلٌ أدبي حقيقي، أو خصوصيةٌ لشاعر- بأنْ يكشفَ عن عواملِ الضَّعفِ والمآخذِ والعيُوبِ داخل الديوان، ولكن انتهت المُقدمة، ولم يُقدِّم سيد قطب إلا مديحَ ذاتِهِ فقط.
ولذا يتعجَّبُ المرْءُ من تحولات سيد قُطب من النقيضِ إلى النَّقيضِ تمامًا في مسألة تركِهِ الشِّعْرَ والنقدَ والروايةَ، إذْ لم يستطعْ أن يُحقِّقَ لنفسه الخُلُودَ كما كان يطمحُ، ولذا كان عليه الذهاب نحو طريقٍ أخرى؛ ليُحقِّقَ الخُلُود الذي رجاه وتمنَّاه، فرمى نفسه وسط جماعةِ الإخوان.
وهذه الصفحاتُ التسعُ، المُقدِّمةُ، تُلخِّصُ من يكونُ سيد قطب، والنتائجُ عمُومًا بمقدماتها، والعِبْرةُ بالخواتيم.. ورغم أنه أعدم وهو في سن ليست كبيرة «60 عاما»، فإن أفكارَهُ التكفيريةَ ملأت الدنيا، وبقيتْ تُغذِّى كُلَّ مُعتدٍ أثيمٍ، مِمَّن يُحاولون الطَّمْسَ، ويسْعَوْن دومًا إلى الإقصاءِ والنفي والحذْف.
هذا الشَّاعر، حسبما جاء في ديوانِهِ، نصًّا خلع قُيُودَهُ، وبه نشوةٌ، ينعمُ بالحبِّ، ويكشفُ فيه عالمًا بعد عالمٍ، قلبه خفوق منتهك، لا يرى شيئًا، عاشَ في عدمٍ، ويأسٍ وحيْرةٍ، وقلق عدم العارف هو قلقٌ سلبي، لم يمنح «الشاعر» صلةَ وصْلٍ بالشِّعْرِ، بل جعله يهجُرُ ما يُحبُّ يأسًا من آتٍ رأى نفسه أنه لن يستطيعَ أن يُقدِّمَ شيئًا ذا قيمةٍ كشاعرٍ، ففضَّل الهرَبَ نحو ما هُو يسيرٌ، إذْ من السَّهْلِ أن أكفِّرَ الجميعَ وأبقى أنا المسلم الوحيد.
لقد أقفرَ سيد قطب شيئًا فشيئًا كاليبابِ، ورأى الكونَ حواليه خرابًا مُوحشًا، وهو ينظرُ في وُجُومٍ واكتئابٍ، حيث طَمَسَ اليأسُ كُلَّ أمانيه ورجاءَهُ فى هذه الدنيا.
يخبطُ في وادي الظنون، ولا يدري ما حكمةُ الزَّمنِ؟
في نفسه يأسٌ صادرٌ منهُ.
إذْ لم يستطعْ سيد قطب أن يكونَ رائدًا، أو شيخًا، أو اسْمًا مُفرَدًا في الكتابةِ الأدبيةِ، كان دومًا من المُريدين والتابعين خُصوصًا عباس محمود العقاد، فنفسه التي أُعجِبتْ لفترةٍ ليست طويلةً بطه حسين، لم تستطعْ أن تبقى على سجيَّتِها، إذْ أن طه حسين اعتاد التفكيرَ والتمحيصَ والشَّكَّ والسُّؤال، ويبدو أنَّ سيد قطب كان منذ البداياتِ هو ابن السَّمْع والطَّاعةِ، إذْ لم يجد صُعوبةً وهو الذي تربَّى تابعًا وخادمًا ومُطيعًا ومُريدًا للعقَّاد، أن يعيشَ حياة الانصياعِ والتبعيةِ والسَّمع والطَّاعة مع الإخوان الذين انضم إليهم عقب ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 ليصيرَ مُشْرِفًا على قسم نشرِ الدعوة في الجماعة.
هذا الشَّاعرُ الذي احتفى بالقُبل في ديوانه بشكلٍ لافتٍ للانتباه، هو من سيحكمُ بعد ذلك على المسلمين جميعًا بالجاهلية والكُفر، وارتدادهم عن الإسلام، الذي رآه قد انقطع عن الأمَّة الإسلامية منذ قُرُونٍ، حيث نقرأ في كتابه «معالم الطريق»: «إنَّ وُجود الأمة المسلمة يُعتبرُ قد انقطع منذ قُرُونٍ كثيرةٍ»، ولابد من أن يكُونُوا «مُسلمين من جديد».
لا أُبرِّئ سيد قطب من مسؤُوليتِه عن كلِّ مُسلمٍ يُقتلُ أو يُكفَّرُ الآنَ، أو بعد الآن، إذ ظلام فكره جرَّ ملايين الظلاميين الذين لم يرَوْا في الإسلامِ سوى القتلِ والذبحِ والأسرِ والسَّبي والتمثيلِ بالجُثثِ، وقطعِ الرُّؤوسِ وتعليقها على الأشجارِ وفى الميادين العامةِ، وفوق أعمدة الكهرباء وأسياخِ حديد الحدائق.
(عن "المصري اليوم")