الانتخابات التشريعية التونسية، الناجحة بمعظم المقاييس، ظلمها الإعلام العربي. فهو لم يولِ تحضيراتها وحملاتها أي اهتمام أو تغطية ذات شأن؛ وعندما تناولها كتابه ومراقبوه وبعض الشخصيات ذات الطموحات السياسية، لم يكن في بال غالبيتهم إلا فكرة واحدة، تكرر التعبير عنها بكلمات من نوع: "الدرس" التونسي، أو "العِبَر"، أو "الاقتداء" أو "المثال" أو "النموذج"، التونسيون كلهم... وغايتهم الواضحة من هذه الفكرة دعوتنا إلى "التعلم" منها.
وما يمكننا أن نتعلمه من هذه "الدروس"، فخلاصته أن في تونس علمانيون أقوياء وإسلاميون "معتدلون" يقرّون بهذه القوة، وأنه يمكن منافستهم والتغلب عليهم، وأن الشعب التونسي مسالم، وأنه ينتمي إلى مذهب سني واحد، وأنه متشبع بالثقافة الأوروبية الخ. وكله مضمون صحيح، ولكنه لا ينفع أن يكون درسا "مفيداً" لشعوب المشرق العربي.
السبب؟
إن الذين يحملون لوحات الدروس هذه ينزعون المعطيات التونسية عن سياقها الخاص، عن تلك الخصوصية بالذات، ويحولون مادة هذه الدروس إلى ذكر الحسنات، أو "أسباب النجاح"، ويريدون إسقاطها على وقائع أخرى، لا تمت إليها بصلة؛ ويتحولون بذلك إلى وعاظ للديمقراطية، يريحون بذلك ضمائرهم المعذبة التي لا تجد لنفسها يداً في دنياها، ولا حلول، فاكتشفوا فجأة اللقية التونسية، وراحوا يكيلون لها المديح، لعلهم بذلك يساهمون بإنقاذ بلادهم، أو على الأقل يلعبون دور أصحاب الرؤى الناجزة الواضحة، التي لم يستمع إلى صوتها أصحاب القرار الحقيقيين، على الأرض. لا صلة إذن بين السياق التونسي وبين السياقين المصري والمشرقي. القول إن تونس لم تعرف انقلابا عسكرياً أو تفلتاً جهادياَ مذهبياً، أو مجازر، هو تأكيد البداهة، والدوران حول الكأس نفسه.
كل شيء مختلف هنا عنها، كل التركيبات والجغرافيا والطوائف والتاريخ القريب. يجمعنا بها وحدة اللغة والدين، يجمعنا بها تلك الشرارة التي انطلقت من ريفها. ولكن ما تبقى يختلف واختلافاً بنيوياً، راسخاً وقديماً. أن تقول مثلا بأن درس تونس هو أن بالإمكان تحجيم الإسلام المتطرف وهزمه سلميا في الثقافة وفي صناديق الاقتراع، يعني أنك تتعامى عن أبسط الأحداث الجارية حولنا، عن استحالة الانتخابات في لبنان، عن الفرق الواضح بين بشار الأسد المستمر بقتل شعبه بعد ثورته عليه، وبين زين العابدين بن علي الذي "فهمه"، فرحل عن معارك وفظائع ترتكبها فصائل إسلامية متطرفة، عن قدرتها على إلغاء الحدود الوطنية، وتشييد دولتها أو دويلتها، وعلى تشريد مئات الآلاف من أبنائها، على إدخال ثورة نظيرة في أتون العسكر أو الإرهاب. والقول هنا فعل مجاني، لا يبدو أن مسؤوليته جسيمة، طالما أنه مجرد موعظة سياسية، تبتغي رفع الصوت لا أكثر ولا أقل.
وهم بذلك لم يخرجوا عن تقليد ثقافي عربي عريق، يبحث عن نماذج خارج معطياته الحية؛ فالإسلاميون المتطرفون لهم نموذجهم الخاص العائد إلى أيام قريش ويثرب؛ وكذلك الشيوعيون في أيامهم الذهبية، ونموذجهم السوفياتي، ومن بعده النموذج الياباني "الجامع بين الشرق والغرب"، ثم النموذج التركي الجامع، بدوره، "بين الإسلام والديمقراطية"...
أدبيات توزَن بالكيلوغرامات، كلها شغلت العقول وطبعت الكتب وألقت المحاضرات وجالت في مؤتمرات العواصم العربية، تقول لنا فوائد الاقتداء بالنموذج كذا أو كيت. وماذا كانت النتيجة؟ خراب على خراب. كأنها لم تكن تلك الكتابات، كأنها لم تأتِ على مسامعنا، صارت في مكان آخر، مختلف تماما عن تصوراتنا الأولى لها؛ ماذا حصل لكي ننساها فنلهث نحو نماذج أخرى جديدة؟ هل فشلت؟ وما الذي أفشلها؟ طبعا دروس الفشل عند دعاتنا ليس وارداً، دروس الفشل لا تجذب، لا تصنع دوراً، لا تمنح ملامح إيجابية... مع أن دعاة النماذج السابقة أحياء يرزقون، ما زالوا يمارسون مهنة إرشادنا إلى "النماذج"؛ والآن التونسي هو النجم، فينقضون عليه...
والحال أن هذه الدروس التي يحاول كتابنا وشخصياتنا أن يلقنوننا إياها، هي دروس متسرّعة، مأخوذة في نجومية موضوعها، لا تعلمنا شيئا عن تونس سوى الفضائل السريعة المروية لمندوبي الشاشة الإخبارية. إنها لمفارقة عجيبة تلك الدروس التي لا تعلمنا شيئا مفيداً، عن نموذج "يقتدى" به. تريد منا أن نستوعب في أيام مجموعة أفكار معروفة ممجوجة عن تونس، فلا نعرف عن هذه البلاد غير خضارها. مع إن انتخاباتها والتحالفات التي قادتها شابتها عيوب كثيرة: منها مثلا أن حزبها العلماني الأول "نداء تونس"، الذي تقدم على إسلامييها يتشكل من شخصيات متنوّعة المشارب، منها شخصيات من النظام القديم. وأن إسلامييها، أي حزب "النهضة"، الذي تصرف "ديمقراطياً" إثر هزيمته، كان يسهل على الإرهاب الداعشي تمريره للشباب التونسي؛ وأن تونس هي أكبر مصدر عالمي للجهاديين "المهاجرين" إلى سوريا والعراق. وأن التونسيين لم يصوتوا للعلمانيين بقدر ما صوتوا للتوازن بينهم وبين الإسلاميين، للاستقرار وللأمن الممسوك؛ وأن شباب الثورة، الذين قادوا إلى تلك الانتخابات، لم يشاركوا فيها...
ولكن الأهم من كل ذلك أن دروسنا التاريخية نفسها لا تنقصنا. خصوصا في لبنان. وأننا لم نتعلم منها شيئا. دروسنا نحن لم نتعلم منها. فما بالك بدروس غيرنا؟ البعيدين عنا؟ الذين لا نعرفهم تماما؟ وبهذه السرعة الصاروخية؟
ولو كان هناك من درس ما علينا فعلاَ الإفادة منه، فهو أن الربيع العربي لم يكن مؤامرة أميركية صهيوينة لتخريب المنطقة، إنما قوة دفع هائلة نحو تغيير توزاناتها السابقة، حتى إيقاعها في الفوضى العارمة... وأن وقوف هذا الربيع على رجليه، ولو برهة، يقتضي استعادة شيء من النظام القديم.