لم يطلع البدر من ثنيات الوداع على إسلام الربيع العربي، بما كان يتصور. فالعام الهجري الجديد، الذي مضى على الثورة في تونس، لم يحمل الاجتياح المحلوم به من طرف أنصار «النهضة»، وامتداداتها في العالم العربي والمغرب الكبير أساسا.
لا أحد، لحد الساعة، اشتكى من النزاهة في الانتخابات، ولم يكن النقاش حول التزوير أو التدليس يتجاوز دور المال السياسي الفاسد في العملية الاقتراعية.
وغير ذلك، يمكن تسجيل أن النقطة السوداء الرئيسية هي عدم خروج مليون تونسي وتونسية من منازلهم للتصويت.
وهو دليل على أن الثورة ليست دائما هي الحق في التفرج والخمول التعددي (أو الحق في اليأس إذا شئنا الشاعرية) إلى واجب المشاركة في صناعة المؤسسات، لا بد من حلم وطني يكون أكبر من الثورة نفسها.
الاتهامات تتوجه إلى ..المال السياسي الفاسد، أولا، وإلى الجو الذي خلقته الجماعات الإرهابية في البلاد.
فهي، كما في العديد من الدول، رفعت من منسوب الرعب، وعدم الثقة، نسبيا، في الدولة، وفي قدرتها على الخروج من احتمالات الثورة إلى يقين الدولة الديموقراطية.
ثلاثية الدولة، الثورة والديموقراطية في تونس اصطدمت، في مرحلة من مراحل البلاد، بالتوتر، عندما اعتبرت القوى الأصولية أن عهد الدولة الدينية قد وصل، ولولا القوة الكامنة في الطبقات الوسطى والقوى العمالية ودور المرأة (الذي لوحظ تراجعه في نسبة المشاركة الآن)، لكانت الانزلاقات ستكلف تونس غاليا.
وقد استطاعت تونس أن تطور لنفسها أرضية التوافقات التاريخية الكبرى (العزيزة على الغرامشيين المغاربة) في صياغة الدستور، بناء على قاعدة متقدمة في حرية المعتقد وفي البناء الجمهوري البرلماني .. وتكريس حقوق المرأة الخ وهوما ساعدها على أن تصل إلى الانتخابات التشريعية بثقة محددة في نتائجها.
لقد حاولت الحركات الأصولية أن تغير الدولة بدون أن تفهمها أو تتعايش معها طويلا، وهو ما أبعدها عن النموذج الذي تعتبره الحل التاريخي للإسلام السياسي، وهو النموذج التركي. ولا داعي للإسراف في التحليل، الذي يمكن أن نلتقطه هو أن النموذج المعني تعايش مع العلمانيين الذي مهدت له الطريق إلى الدولة، وتربي في منطق الدولة، في حين كان النموذج التونسي مطالبا بأن يتعلم ويتربى داخل الدولة على منطقها.
لم يصبح انتصار الإسلام السياسي أو الحزبي بالتحدي قدرا مغاربيا، كما كان التصور قائما مع قوة المجتمعات، ولا كان من الممكن التسليم أنه قادر على الذوبان النهائي في الدولة لكي تصبح الدولة هي هو وهو هي.
مما لا شك فيه أن الثورة حررت كل القوى السياسية في البلاد، وهذا أمر مهم، لأن هذا التحرر هو ما يعني أن المعركة من أجل الحريات لم تبق محصورة في المواجهة مع النظام السائد أو بقاياه، بل ستنتقل إلى المجتمع ، وتعني فيما تعنيه الرفض المطلق للنزعة الداعشية التي تتطور في البلاد.
كما أن الانتخابات الحالية هي فرز سياسي انتخابي مهم لتثبيت القوى الرئيسية التي تؤطر المجتمع وقادرة على التعبئة فيه، بعيدا عن التأثير المباشر لأجواء الثورة (بما تحمله من أمال ومن مفارقات ليس أقلها التخوين والتكفير .. الخ ).
وبالرغم من أن النمط الاقتراعي النسبي لايعطي لأي حزب القوة الكافية لكي يحكم لوحده، لكنه لا يمنع من ترتيب الموازين بناء على القدرة والتواجد داخل البلاد. وهو ما يعني الحفاظ، في تأسيس المؤسسات الدائمة للدولة، على روح التوافقات الكبرى..