الأربعاء 9 أكتوبر 2024
كتاب الرأي

إدريس الأندلسي: من حقنا أن نخاف على مستقبل التغطية الصحية

إدريس الأندلسي: من حقنا أن نخاف على مستقبل التغطية الصحية إدريس الأندلسي
سكن الأمل فئات واسعة من الشعب المغربي منذ إطلاق مشروع استراتيجي ملكي اجتماعي في سنة 2021. انطلق المشروع ورصدت له التمويلات اللازمة التي تجاوزت 51 مليار درهم. تم تخصيص جزء كبير من هذه الميزانية للتغطية الصحية، وتم وضع تصورات ومشاريع لتأطير قطاع الصحة والتغطية الصحية لتجاوز كل المعيقات المتعلقة بالولوج إلى العلاجات والخدمات الصحية بشكل عام. يمكن التأكيد على أن توسيع التغطية الضامنة للتأمين الصحي قد تم بالفعل.
 
تجاوزت نسبة هذه التغطية أكثر من ثمانين في المئة، ولا تزال هناك مشاكل تحول دون تحقيق الأهداف المتعلقة بـ"أمو التضامن" و"بغير الإجراءات". وسندخل قريباً إلى ورش صعب يتطلب حنكة سياسية، وليس مجرد تمظهر للقرار التقنوقراطي. الأمر يتعلق بتكليف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بدمج جميع المؤمنين من طرف الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (كنوبس). وسيتم فتح هذا الملف في وقت صعب بالنسبة لإعطاء مدلول حقيقي للتغطية الصحية والولوج إلى العلاجات.
 
وظلت التحديات كبيرة بالمقارنة مع الإنجازات. يتطلب إصلاح القطاع الصحي حلاً واقعياً للمعضلة الأساسية التي تتمثل في صعوبة تمكين المواطن من حقه في الولوج إلى العلاجات. قد نخصص الميزانيات ونزيد من كثافة النصوص القانونية، ثم نكتشف بعد سنوات أن دخل الفرد أو الأسرة هو الوسيلة المضمونة للحصول على خدمات صحية، وليس الحصول على نظام تأمين إجباري أو تكميلي على المرض. تظل البطاقة البنكية أهم من بطاقة الانخراط في التأمين عن المرض. الأولى تمكن المواطن من الحصول على العلاج مباشرة بعد إصابته بالمرض، بينما الثانية لا تعفيه من الانتظار شهوراً لإجراء فحص طبي. وتظل الأسرة هي الممول الأساسي لتكاليف الصحة في بلادنا. نعني بالأسرة تلك التي تعيش على الهشاشة رغم تصنيفها كطبقة وسطى. تناضل هذه الأسرة من أجل سكن لائق، ثم تضطر، في كثير من الحالات، لبيع هذا السكن لمواجهة تكاليف العلاجات.
 
من حق المواطن أن يخاف على وضعه إزاء فاعلية نظام التغطية الإجبارية عن المرض، وعلى كل أنظمة التغطية التكميلية التي تتكفل بها التعاضديات المؤسسة للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (كنوبس). ومن حق المواطن أن يخاف على مستقبل التغطية الصحية في ظل اختيارات حكومية لا تعير أي اهتمام لقضية "اعتبار الخدمات الصحية كسلع" وفتح الباب أمام قطاع خاص غير مهني. أصبحت شركات التأمين مخاطباً رسمياً في مجال التأمين التكميلي، في اتجاه القضاء الكلي على القطاع التعاضدي التضامني. قد نبني أكبر وأغلى المستشفيات وأكثرها تجهيزاً، ولكن ضمان الولوج إلى العلاجات كحق دستوري لا يزال بعيد المنال. وقد تندم بعد حين مؤسسات غلبها أصحاب تسليع الخدمات الاجتماعية التربوية والصحية والثقافية. وسيحاسب تاريخ بلادنا بعض المسؤولين على قراراتهم، وسكوتهم، وغياب فعلهم من أجل تنزيل فعلي وملموس للمشروع الملكي الخاص بالتغطية الاجتماعية.
 
ويظهر أن المؤسسة الحكومية تخضع كلياً لاختيارات ليبرالية حتى في المجال الاجتماعي. تم فرض القانون 13-131 سنة 2015 لفتح الباب أمام مستثمرين خواص لا يحملون إلا المال لتملك مصحات ومستشفيات. وتزداد وتيرة هذا الاستثمار بشكل سريع قد يشكل خطراً على أرباب المصحات ذوي الاختصاص في مجال الطب. وقد أعطى هذا الهجوم أولى نتائجه بعد تبني القانون 00-65 المتعلق بالتأمين الإجباري عن المرض، والذي تم بموجبه تحجيم دور التعاضديات في تقريب الخدمات الصحية من المنخرطين في كافة أرجاء الوطن، واختيارها لسياسة القرب التي جعل منها ملك البلاد محور إصلاحاته للقطاع الاجتماعي. وتظل هذه المؤسسات التضامنية صامدة أمام "سلعنة" الخدمات الصحية، وماضية في معركة من أجل الحفاظ الحقيقي على مبادئ الدولة الاجتماعية التي تبنى على التضامن دون هدف ربحي.
 
يواجه المواطن المغربي في يومه وحتى في غده صعوبات كبيرة للولوج إلى العلاجات. وستزداد الأمور تعقيداً بعد ضم الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. مشروع الحكومة يطرح قضية تجاهل كبير ذو طابع سياسي للآلاف من المنخرطين في كنوبس، وتجاهل مستقبل الموظفين، وتجاهل التعاضديات التي أسست أولى بنيات التأمين الإجباري عن المرض في تاريخ بلادنا. قد يتم تمرير مشروع توحيد مؤسساتي لتدبير التأمين الإجباري عن المرض، وعندها سيطرح مشكل التعامل مع ملفات المخاطر الصحية الكبرى التي يغطيها الكنوبس حالياً. سيقول لك الصندوق الوطني في شكله الجديد "عليك أن تدفع تكاليف العلاج المرتفعة أولاً قبل أن تضع ملفك أمام مصالحه". ويجب التذكير بأن الكثير من الموظفين السابقين والحاليين الذين أصابتهم أمراض مكلفة، سيصبحون في حالة اضطرار لبيع شققهم أو أي شيء يمتلكونه للحصول على علاج قبل فوات الأوان.
 
وتظل الحكومة ماضية في نهجها المخالف لكل ما قيل عن "الدولة الاجتماعية". ستستمر في تجاهل غلاء الأدوية والمستلزمات الطبية في بلادنا. هل لا يزال اللوبي يتحكم في الأسعار التي تفوق مستواها أسعار الأدوية في أغلب الدول الأوروبية؟ وهنا يجب القول إن تدهور التوازنات المالية لمؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض أسبابه كثيرة، ومن ضمنها سعر الدواء. لو طبق المغرب أسعار فرنسا في هذا المجال، لتم توفير أكثر من مليار درهم سنوياً من تحملات المؤسسات في مجال تعويض ملفات المرض في شقها الدوائي. ويمكن توفير مبالغ كبرى في مجال المستلزمات الطبية.
 
ويظل الخوف كبيراً على المشروع الملكي الاستراتيجي الكبير الخاص بالتغطية الصحية إذا لم تقم الحكومة بحل معضلة الموارد البشرية. يعرف كل المهتمين بالقطاع الصحي أن كثيراً من الأطباء المنتمين للقطاع العام يشكلون العمود الفقري لمؤسسات القطاع الخاص. وأتمنى أن تصبح هذه القضية من الاختصاصات الفعلية للأجهزة الرقابية والقضائية لحماية السلم الاجتماعي في بلادنا. عملت بلادنا على رصد إمكانيات كبيرة لتكوين الأطباء داخل المغرب وخارجه، ولكن الواقع يبين أن الانتظارات لا تزال قائمة. يجب التأكيد على أن جزءاً مهماً من الأطباء أخلص للقسم والوطن، ولكن الاستثناء الكبير موجود. وقد ظلت الحكومات المتعاقبة ضعيفة أمام هروب بعض الأطباء من مسؤوليتهم في المستشفى العمومي وتفضيل الاغتناء غير المشروع عبر اللجوء إلى أساليب "القطاع غير المهيكل". يمنح القانون للأطباء وقتاً محدداً ومنظماً للعمل لدى مصحات القطاع الخاص، ولكن واقع الحال يفسر جزءاً من تراجع الولوج إلى العلاجات في القطاع العام. ولقد أصبح من الواجب على الحكومة وكل أجهزتها الرقابية العمل على مراقبة التواجد الفعلي لكل الموارد البشرية في المستشفى العمومي. وتسهم هذه الحالة في تكاثر حالات التهرب الضريبي والأداء نقداً دون فاتورة.
 
لا يمكن أن نطمئن على مستقبل التغطية الصحية في ظل غياب تام لتدبير الخلاف بين الحكومة وطلبة الطب المعول عليهم لتحسين أداء القطاع العام ودعم العرض الصحي في بلادنا. يستمر الإضراب العام ويستمر التعنت الحكومي ويستمر الخوف على منظومتنا الصحية. لم يتبق للمواطن إلا اللجوء إلى الحكمة الملكية وقدرتها على مخاطبة المغاربة بفعل في التغيير. إذا كانت البطاقة البنكية تفتح باب العلاجات في وجه بعض المواطنين، فإن بطاقة التأمين الإجباري عن المرض يجب ألا تحرم المريض الفقير وحتى صاحب الدخل المتوسط من الولوج إلى العلاجات قبل فوات الأوان.
 
ولكل ما سبق، يجب ردم الهوة بين أهداف المشروع الملكي الكبير في مجال التغطية الصحية والولوج الحقيقي إلى العلاجات. هناك هجوم كبير على القدرة الشرائية في عدة قطاعات، وعلى رأسها قطاع الصحة. وهناك أيضاً موجة تغيير مؤسساتي لتقليص الخدمات المغطاة بالتأمين الإجباري عن المرض. ولكل من ينكر هذا الواقع، عليه زيارة المستشفيات العمومية في الصباح الباكر والاستماع إلى معاناة المرضى أمام غياب التجهيزات وضعف حجم الموارد البشرية وانتظار شهور كثيرة للحصول على خدمة صحية.
 
قررت الحكومة توحيد النسق المؤسساتي لتدبير التأمين الإجباري عن المرض دون إعطاء جواب عن تخوف المنخرطين في (كنوبس) من تقليص حقوقهم في تغطية المخاطر الصحية الكبيرة. هل سيتم هدم أولى لبنات التغطية الصحية التضامنية في تاريخ بلادنا، وهل سيتم محو التضامن من القطاع الصحي ليستوطن القطاع الخاص التأميني في التغطية التكميلية؟ يتطلب الأمر كثيراً من الحكمة للحفاظ على رأسمال لا مادي اسمه "ثقافة التضامن بين الأجيال" ودعمه بالتمويل الذي يتم توفيره بسرعة حين يتعلق الأمر بمشاريع كبار الفلاحين وأصحاب الشركات الكبرى في كل القطاعات.
إنه السلم الإجتماعي يا سادة... فلنحافظ عليه بالعقل والقرار السديد.