الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
فن وثقافة

محمد الزوهري: الصحفي والمؤطر والإنسان في كتاب "حفرياتٌ صحفية" للكاتب جمال المحافظ

محمد الزوهري: الصحفي والمؤطر والإنسان في كتاب "حفرياتٌ صحفية" للكاتب جمال المحافظ جمال المحافظ ومؤلفه ومحمد الزوهري (يسارا)

تعتبر الكتابةُ عند الأستاذ جمال المحافظ تجربةَ حياةٍ وكفاح. تجربةٌ ثرية ومُلهمة؛ إذ ليس من السهل الجمعَ بين الكتابة، والبحثِ، ومواكبة الأحداث، والتوثيق، وتقلّدِ مهام نقابية وحقوقية وجمعوية دفعةً واحدة، فعادةً ما ينهار الصحفيون أمام ضغوطاتِ عملهم اليومي ولا يُسعِفهم الوقت للانشغال بأمور أخرى، إلا أن المحافظ اتصف بقدرةٍ هائلة على دحر الصعاب، وآثر جمعَ ما تفرق في غيره؛ كاشفة عن كاريزما رجل صادق منذور للعطاء والسخاء في معترك الحياة.

 

تشرفت بمعرفة جمال المحافظ منذ عدة سنوات، سواء عن طريق "النقابة الوطنية للصحافة المغربية"، بحكم عضويتي سابقا بالمجلس الوطني لهذه الهيئة، أو عن طريق حرصي على متابعة مقالاته كأحد الأقلام المرموقة في وكالة المغرب العربي للأنباء، أو عن طريق معرفتي به كفاعل بالجمعية المغربية لتربية الشبيبة، وهنا أستحضر تأسيس فرع للجمعية بقريتي بني وليد في نهاية الثمانينات، ولازال الفرع قائما لحد الآن. وكان لي شرف الانتماء إليه في مرحلة من حياتي.

 

وما كانت لتتوفر هذه القدرات والخصال في سي جمال، لولا مراسه الطويل في محراب صاحبة الجلالة، وعطائه الرائد في دور الشباب والمخيمات، ومسؤوليته في العمل النقابي، والتصاقه بقضايا المجتمع، وإصراره الجاد على البحث والتوثيق، فضلا عما يتمتع به من صفات الإخلاص والصدق تعكس معدنَه الأصيل.... في ثنايا كتابه يبدو الرجل منشغلا بقضايا الإعلام والحريات بالوطن، ومسكونا بالرغبة في استحضار الوقائع والشواهد التاريخية المؤثرة، ومعتزا بالتزامه بالعمل النقابي والجمعوي. 

 

وعكس كتابه الأول الذي تقيد فيه بضوابط الكتابة العلمية الأكاديمية، يحضر الهاجس الإعلامي في كتاب "حفريات"، حيث الاعتماد على معايير الكتابة الصحفية، والدقة في سرد الوقائع التاريخية وتوثيقها، والنبش في قضايا اجتماعية وسياسية شائكة... محتويات قُدمت بكثير من الدقة والتشويق، وبعناوين جذابة، وباستعمال لغة بسيطة وأنيقة وجمل قصيرة، والاستعانة بصور وبيانات ووثائق تاريخية دالة.

 

في الكتاب تتبدى غيرةٌ جارفةٌ للرجل على مهنة المتاعب؛ مدافعا تارة، ومعاتبا تارة أخرى، ومحددا لقواعد ممارستها تارة ثالثة. وفي ذلك لم يتردد في الصدح والكشف والانتقاد، وهو العارف بأسرار المهنة، والملم بخبايا عملها النقابي، والمتيم بأخلاقياتها... 

 

ينطلق الكتاب بعنوانٍ مثير ذات دلالات عميقة تُحيلنا على فعل الحفر في ذاكرة مليئة بالعطاء. حفريات صحفي خبِر مجال مهنته وتشبع بقواعدها، وأهدر الكثير من جهده وصحته من أجلها. وحفريات مناضل أخلص لمبادئه وحافظ على رصيد ثباته في منعرجات سياسية ونقابية مؤثرة. وحفرياتُ مربي تأطر في دور الشباب والمخيمات وأطر أجيالا في "لاميج"، وأخيرا حفريات أكاديمي تسلح بالرصانة في البحث والتوثيق ...

 

مضامين الكتاب     

تتضمن "حفريات صحفية" حوالي مائة نص، عبارة عن مقالات، تتنوع مضامينُها وتختلف أحجامُها، دون أن توجد وحدة موضوعية بينها، ولا تصنيف لمحاورها. مواضيع يتداخل فيها الماضي بالحاضر، والخبر بالرأي، والتوثيق بالتحليل، والاجتماعي بالاقتصادي، والحقوقي بالسياسي، والفني بالتربوي، والوطني بالدولي... لذلك من الصعب الإحاطة بكل الأبعاد والأحداث والمواقف التي وردت في الكتاب، إلا أنها جاءت متسقة ومتناغمة، تنم عن موسوعية مؤلفها وثراء اهتماماته، وتحفز القراءَ على التفاعل مع مضامينه بدافع الفضول والرغبة في المعرفة.

 

مقالات وحوارات حررها ونشرها الكاتب الصحافي جمال المحافظ ما بين 2018 و2020، في منابر إعلامية مختلفة مغربية وعربية، وضمها في مؤلف أنيق إخراجا وتنسيقا.

 

ورغم صعوبة إيجاد خيط ناظم لمحتوياته، أو تجنيس المقالات الواردة فيه، إلا أنها تمثل مزيجا من الآراء والتحليلات والشهادات والمعلومات... ومع ذلك حاولتُ لمّ كل هذا الشتات المعرفي والتاريخي من خلال التيمات التالية:

 

المحور الأول: وثائق وشهادات نفيسة

خصص الأستاذ المحافظ في كتابه حيزا كبيرا لتوثيق أحداث ومواقف بارزة من تاريخ المغرب المعاصر، وأفرد اهتماما خاصا بمسارات رجالٍ أفذاذ سبقوا زمانهم بأفكارهم النيرة ومواقفهم الاستباقية في الحداثة والمواطنة والتربية وحرية التعبير والصحافة، وهو ما ذهب إليه ذ. إدريس اليزمي، رئيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، في تقديمه للكتاب، عندما أكد أن جاذبية مضامين هذا الإصدار تكمن في العمق التاريخي الذي يطبعه، ومنها مضمون الموقف الذي عبر علال الفاسي حول حرية التعبير: "لا مسؤولية بغير حرية، ولا حرية بغير تفكير".

 

ومن أكثر المضامين أهميةً في المؤلف؛ نشر وثيقة تاريخية لمحمد بن الحسن الحجوي، أحد رواد الفكر الإصلاحي، وهي عبارة عن مخطوط بخط اليد يعود إلى بداية القرن الماضي بعنوان "واجب الصحافة"، يتضمن جملة من واجبات الإعلام وحقوقه، وتعكس وعيا مبكرا للحجْوي بأهمية حرية التعبير والصحافة في المجتمع، في وقتٍ لم يكن هناك مجال لإعلامٍ مهني ولا ثقافة حقوقية ببلادنا، ما يجعل هذا المخطوط وثيقة تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية العلمية والأكاديمية، توفَّقَ المؤلف في الكشف عنها، وإبراز أهميتها في مشروع الإصلاح والتنوير ببلادنا.

 

في نفس السياق، توقف المؤلف عند موقف المهدي المنجرة  قبل 40 سنة، حينما نبّه إلى أن ثورة الأمم لم تعد تعتمد على المواد الأولية، بل إن الاستثمار في الإعلام وأدواته يُنبئ عن ثورة رقمية قوامها الثروة اللامادية... كما أفرد الكاتب اهتماما خاصا لموقف المهدي بن بركة من تأسيس النقابة الوطنية للصحافة المغرب، عندما اعتبر أن الهدف الأساسي من تأسيس هذه الهيئة "لا يتمثل فقط في الدفاع عن الصحافة الوطنية ومواجهة صحافة ماس الاستعمارية، وإنما كان لإعادة اللحمة بين مكونات الحركة الوطنية، بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية والهيئات النقابية والاجتماعية الدائرة في فلكها". 

 

وعرج الكتاب على محطات تاريخية أخرى مؤثرة وذات دلالات عميقة في تاريخ المغرب، منها حدث شق طريق الوحدة التي هندسها المهدي بن بركة، وحدث تأسيس المجلس الوطني الاستشاري مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، ثم حدث تأسيس الهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات مهنة الصحافة وحرية التعبير، وحدث إلغاء ظهير "كل ما من شأنه" المقيد للحريات، وحدث خروج محمد العربي المساري من حكومة التناوب بعد عجزه عن إصلاح قطاع الإعلام العمومي.   

 

المحور الثاني:  الإعلام ومحيطه السياسي والاجتماعي والحقوقي

يحفل الكتاب بسيل من المقاربات التي تتناول عمق التفاعل القائم بين الإعلام ومحيطه السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي ولعل هذا النقاش يجد سنده في الاهتمامات الواسعة للمؤلِّف الذي يجمع بين الصحافة والعمل النقابي والحقوقي. وهو ما عبر عنه إدريس اليزمي بالقول: إن المواطن جمال المحافظ مسكون على الدوام بتاريخ الحياة الديمقراطية لبلاده، خصوصا بدور وتأثير الصحافة والإعلام على مجتمعه، متتبعا تطور القطاع والمهنة، ومسائلا مفاهيمه المحورية.

 

وقد ورد في كثير من محتويات الكتاب ما يفيد بأن وسائل الإعلام ليست مجرد ناقل محايد للخبر، بل فاعلا محوريا في الحياة العامة، يؤثر ويتأثر بمختلف السياقات والوقائع المهمة، كما أن الإعلامي المسلح بالكفاءة والنزاهة الفكرية يمكن أن تكون له مساهمة رئيسية في التغيير الاجتماعي والدفاع عن الحقوق، والقيام بدور المعارضة، خاصة عندما يتم تدجين الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.

يقول جمال المحافظ في مقدمة الكتاب: "لا يمكن فهم الصحافة فهماً شمولياً دون الإحاطة بأنظمة ومؤسسات المجتمع، لأن وسائل الإعلام هي جزء من البناء الاجتماعي، وتطورها يُعدّ نتيجة حتمية للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية".

 

ويشاطره في الرأي مراد القادري، رئيس بيت الشعر بالمغرب، على ظهر المؤلَّف، بالتأكيد أن "الكتاب يقف بصفة عامة على حُدودِ التمـاس بين الإعلام والمجتمع في تمظهراتِه السياسيّة والاجتماعية والثقافية والتربوية، وهو ما يتيحُ له مُزاوجة النّظر في التأثيرات المتبادلة بينهُما، ورصد التفاعلات التي يُحدثُها كل طرفٍ في الآخر". مضيفا أن "ممارسة مهنة الصحافة بقيت تعبيرا حقيقياً عن مدى قوة وهشاشة فضاء الحرية التي تعد الرئة التي تتنفس بها مهنة المتاعب".  

 

المحور الثالث : الصحافة أخلاقيات المهنة

خصص الأستاذ جمال الحافظ حيزا واسعا في كتابه للحديث عن إشكالية أخلاقيات الإعلام، بالتركيز على تجلياتها وقواعدها ومسارها التاريخي بالمغرب، وأوجه الانتهاكات التي تواجه المهنة، وعلاقة الأخلاقيات بالحريات العامة... ولعل اهتمام السي المحافظ بهذه الإشكالات يعود إلى ما راكمه الرجل من خبرات طويلة كصحفي مهني ومسؤول بإحدى أهم المؤسسات الإعلامية الوطنية (وكالة المغرب العربي للأنباء)، وكفاعل في النقابة الوطنية للصحافة المغربية، وقبلها كمؤسس للهيئة الوطنية المستقلة لأخلاقيات المهنة وحرية التعبير، وأيضا كباحث أكاديمي في مجال الإعلام.

 

ويؤكد المؤلف أن "سؤال التخليق في مجال الإعلام لازال سؤالا مؤجلا، ويقتضي ضمان حق الجميع في الإخبار والتثقيف والترفيه، مع التقيد بمبادئ النزاهة والأمانة والالتزام بالضوابط المهنية وبأخلاقيات الصحافة في ظل الفوضى الراهنة" (ص15). مضيفا أن ضمان حرية الصحافة يمر عبر الحفاظ على شرف المهنة وكرامة الصحفيين وحمايتهم أثناء تأدية واجبهم المهني. (ص 220) ومسؤولية معالجة اختلالات المهنة، لا يمكن أن يتحملها الصحفيون والمجلس الوطني للصحافة لوحدهما، وإنما هي مسؤولية مجتمع برمته، تتطلب مقاربة تشاركية وأدوات عملية لرصد الانتهاكات والتصدي للاختلالات القائمة. (ص 221).

 

المحور الرابع : الإعلام والعمل النقابي

وردت في الكتاب نصوص كثيرة تتناول علاقة الإعلام بالعمل النقابي، من خلال سرد المسار التاريخي لهذه العلاقة، ودور النقابة في حماية المهنة والدفاع عن حقوق الصحفيين، وإبراز الحدود الفاصلة بين الممارسة الإعلامية والانتماء النقابي والسياسي... وطبيعيي أن يهتم المؤلف بهذا الموضوع بالنظر لأهميتها في تأطير المهنة وتحصينها، بل إن السبب الرئيسي لاهتمام المؤلف بهذا الموضوع، يعود - كما أشرنا سلفا - إلى أن الرجل ظل ومازال فاعلا ومؤثرا في النقابة الوطنية للصحافة منذ سنوات عديدة.

 

 يقول الأستاذ المحافظ في هذا السياق: " تمكنت نقابة الصحافة من المحافظة على وحدتها التنظيمية، وجعَلها ذلك تُشكل تجربةً متفردة في الحقل السياسي والنقابي والحقوقي الوطني، بعد أن حققت انتقالا سلسا على مستوى بنيتها القانونية والتنظيمية، جراء التحول من نقابة لمديري الصحف إلى نقابة للصحفيين منذ سنة 2000. مضيفا أن العلاقة بين نقابة الصحافة والدولة مرت من لحظات صراعٍ ولحظات انفراج، وهو ما أدى إلى خلط شديد بين الحقل الإعلامي والحقل السياسي والحقل النقابي... وفي خضم هذا الوضع، تمكنت النقابة من تعزيز حضورها كمخاطب مقبول لدى الدولة في قضايا الصحافة والإعلام (ص333) ما جعلها، حسب الكاتب، تسلك مسارين في حياتها: مسار المواجهة ما بين 1963 إلى 1993، ومسار الشراكة انطلاقا من أواسط التسعينات وإلى الآن. مساران تعاقبت عليهما ثلاثة أجبال: جيل التأسيس، وجيل التنظيم والتأهيل، وأخيرا جيل التغيير.   

 

المحور الخامس:  من المجلة الحائطية إلى حائط الفايسبوك

احتفى المؤلف، بكيفية لا تخلو من المتعة والنوستالجيا، بالمجلة الحائطية التي شكلت طِوال عقود عديد قناةً تواصلية وإخبارية وتثقيفية وتنويرية في المدارس ودور الشباب والمخيمات، حيث وجد فيها مبدعون ناشئون وشباب موهوبون متنفسا لنشر إبداعاتهم والبوح بمكنوناتهم.

 

موضوعٌ نفيس جاد به الكاتب، وجاء مقترنا بحائط آخر هو الفايسبوك، من خلال مقارنة دالة؛ جعلت من الحائط الأول منصة أجيال الماضي في التواصل والإبداع وانبعاث الحس الوطني والقومي، وجعلت من الحائط الثاني منصة الجيل الراهن في زمن الطفرة الرقمية.

 

يكشف الكاتب عن عمق ارتباطه بالمجلة الحائطية بالقول: كانت إحدى الوسائط الهامة التي مكنتي شخصيا من تملك العديد من المهارات والمعارف. مستحضرا في هذا السياق المنافسة القوية التي كانت بين رواد “لاميج” ورفاقهم في جمعية الهدف بدافع الاجتهاد والبحث المستمر لأجل أن تكون مجلة كل طرف هي الأفضل.

 

التفاتة ذكية ودالة، وصفها الأستاذ اليزمي في تقديمه للمؤلف ب "إحدى اللحظات الأكثر إمتاعا ومؤانسة في الكتاب، عبرت عن موضة الثمانينات في المؤسسات التعليمية والمخيمات الصيفية ودور الشباب، حيث شكلت المجلة الحائطية إحدى آليات التواصل والإخبار والتثقيف والترفيه في الزمن الورقي والكتابة بخط اليد، وكانت في زمانها فضاء مفتوحا للحوار والنقاش حول العديد من القضايا التي كانت تستأثر باهتمامات الشباب والفاعلين التربويين والجمعويين، فكانت ناطقا لناشريها ومعبرة عن توجهات محرريها، ما اعتبرها المحافظ أول منصة للتواصل الاجتماعي، ونقطة العبور نحو الحائط الافتراضي. يقول في هذا السياق: "المجلة الحائطية والفيسبوك تشتركان في خصائص متعددة، منها اعتمادهما معا على الحائط للنشر... ورغم اختلاف أزمنة نشأتهما ودعاماتهما، فإنهما يتقاسمان خاصية الفعل التواصلي والتفاعلي".

 

المحور السادس : مستقبل الصحفي والصحافة

يفتح الكتاب هوامشَ كثيرة للتفكير والتحليل بشأن مستقبل الممارسة الإعلامية بالمغرب في ظل تحديات الثورة الرقمية، ولعل مبعث القلق الذي يساور المؤلف في هذا الصدد يعود إلى التحولات الجوهرية التي مست المهنة بالمغرب، حيث شبح الإفلاس يهدد الصحافةَ المكتوبة، وطوق التضييق يخنق استقلالية الإعلام السمعي البصري، وفوضى الإعلام الإلكتروني تحولت إلى مرتع خصب لمن هبّ ودبّ من محترفي الاسترزاق والأخبار الزائفة، إلى درجة أصبح مَن يحفظ 300 كلمة ويملك عصا سيلفي، يقول أنا صحفي، حسب ما ورد في الكتاب.

 

بيد أن عمق هذا القلق يرتبط أساسا بحجم التفاهة التي تهمين على الإعلام البديل واتساع قاعدة جمهوره، مقابل تراجع الإقبال على الإعلام التقليدي الجاد. وفي خضم هذا الوضع القاتم باتت مهنة الصحافة في خطر، ومعها صارت القيم المهنية والاجتماعية والأخلاقية في مهب الريح.  

 

إن إشكالية الإعلام البديل والافتراضي، وظهور أجيال إعلامية جديدة به، تستدعى وقفة حقيقة من كل الفرقاء لأجل إعادة النظر في الممارسة الإعلامية، وجعلها ممارسة منظمة وحرة وديمقراطية، مع ضمان القيمة المركزية للصحفي كفاعل مجتمعي وناقل للحقيقة، وأداة للتحديث والتنوير... ولن يتحقق ذلك، حسب الكاتب، سوى ب "العمل على اعتماد العصرنة والتحديث لمواجهة تحديات الرقمنة".

 

إن مرحلة الانتقال الإعلامي التي نعيشها اليوم تمت بسند افتراضي رقمي هجين، مع ما ترتب عن هذا الوضع من "ثقافة جديدة وكاسحة على الأذن والعين والزمان والمكان والفضاء والذاكرة والذات والآخر والمجتمع والواقع والعزلة والعري"، وفق الباحث إدريس جبري في دراسة حول الكتاب.

 

المحور السابع: احتفاء بالتأطير الجمعوي والتربوي

في ثنايا الكتاب احتفاءٌ خاص ب "الجمعية المغربية لتربية الشبيبة"، وفي ذلك تعبير عن امتنان الرجل ووفائه ل "لاميج" كمدرسة للتربية والأخلاق والمواطنة والالتزام. قال في حقه سي محمد القرطيطي، رئيس الجامعة الوطنية للتخييم، في مستهل الكتاب: كان جمال "من بين المساهمين ليس فقط في تأطير المخيمات التربوية والتكوينات، بل عمل على التحسيس والترافع حول قضايا الطفولة والشباب، لإيمانه العميق بأنّ للتخييم وأنشطته دورا في عملية التنشئة الاجتماعية".

 

ولا شك أن سي جمال مدينٌ في تعلقه ب "لاميج" لسي محمد الحيحي، الذي وصفه بأنه "مدرسة للتربية على المواطنة، وأحد أشرس المدافعين عن أدوار التربية في الديمقراطية وحقوق الإنسان". كيف لا، وهو الذي تخلى عن العمل السياسي، وكرس حياته لتربية الشبيبة والخدمة الاجتماعية والفعل الحقوقي. مضيفا أن "الفقيد كان يحثنا دوما على استقلالية العمل المدني الجمعوي عن السياسي الحزبي". (ص 346).

 

وفي السياق نفسه، ذكر إدريس اليزمي ما يؤكد عمق الروابط المتينة التي جمعت المرحوم الحيحي مربي الأجيال بالكاتب جمال المحافظ، والآثار المترتبة عن ذلك، سواء على مستوى اهتمامه بالفعل الحقوقي والقانوني، أو على مستوى التربية والتكوين والتنشيط والتطوع والتخييم والخدمة الاجتماعية. كما استطاع مراد القادري (رئيس بيت الشعر في المغرب) أن يعبر بأسلوب راقٍ عن هذا الوفاء بالقول "إن مداد حفريات كتابه جاء من محبرة المربي والحقوقي محمد الحيحي". 

 

قيمُ سي محمد الحيحي جعلت المؤلف لا يتردد في التأكيد على أن الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، ومعها جمعية الطفولة الشعبية، وجمعية المواهب، وجمعية الشعلة للتربية والثقافة، لم تكن جمعيات عادية، بل كانت مؤسسات للتكوين على المواطنة والنضال، ومناصرة القضايا العادلة. وجمال المحافظ، "خريج هذه المدارس والمسهم فيها، وواحد من أبنائها البـررة، وثمرة من ثمارهم الطيبة اليانعة"، بتعبير الأستاذ الباحث إدريس جبري. 

 

مواضيع أخرى

إلى جانب المحاور الكبرى السالفة الذكر، ناقش الكاتب مجموعة من القضايا الأخرى الحساسة، منها تحديات انتقال الإعلام من الورقي إلى الرقمي، وجدلية الخدمة العمومية في الإعلام العمومي، وأزمة الصحافة المكتوبة زمن كورونا، وحضور اللغة العربية في الإعلام، كما وقف الكاتب عند تداعيات حملة المقاطعة في منصات التواصل الاجتماعي. من جهة أخرى، أثار المؤلف الوضع الحقوقي بالمغرب بين السريالية والواقع، واستعرض موقف الصحفيين من قضية الإعدام والحق في الحياة، دون أن يغفل انتقاده لتجاهل الإعلام العمومي لحراك الريف وأحداث جرادة.

 

 بيد أن الأكثر دلالة في الكتاب؛ ذلك الحضور اللافت لمجموعة من الشخصيات المؤثرة في تاريخ المغرب الحديث، التي استحضرها المؤلف لإبراز عطائها الفكري والسياسي والإعلامي السابق لزمانه؛ فاستحضر محمد بن الحسن الحجوي بنبوغه، والمهدي بن بركة بكفاحه، وعلال الفاسي بموسوعيته، وعبد الرحمان اليوسفي بمصداقيته، ومحمد العربي المساري بشجاعته، وعبد الرحيم بوعبيد باستقلاليته، وأحمد بلافريج بدبلوماسيته، ومحمد عابد الجابري بحداثته، ومحمد الحيحي بديناميته، وعبد الكريم غلاب بمهنيته، ويونس مجاهد بجديته...

 

وخص الكاتب قضية التنظيم الذاتي في الإعلام باهتمام وافر، إذ تحدث عن مدى وجود إرادة الإصلاح لدى المجلس الوطني للصحافة، وتساءل: ما معنى أن تكون صحافيا في عالم اليوم، واقترح إعادة النظر في جائزة الصحافة، كما استعرض اختصاصات الهيأة العليا للسمعي البصري، ووقف عند قرار إلغاء وزارة الاتصال متسائلا: هل هو قرار تقني أم مطلب حقوقي؟

 

وحظيت القضية الفلسطينية باهتمام خاص لدى الكاتب، بالتركيز على دور الإعلام في استعادة مركزية هذه القضية، وتحدث عن موت الإيديولوجية وانبعاث ثقافة "الفاست فود"، دون أن تفته الفرصة للاحتفاء بتجربة مجموعة "جدل" في الأغنية الملتزمة.

 

ووسط هذا الزخم من القضايا الآنية والتاريخية، عمد السي جمال في كتابه إلى الطواف بنا حول العالم، متناولا قضايا ساخنة وطريفة، منها "قصة حب مجوسية" بين الإعلام وترامب في الولايات المتحدة، وحدود التماس بين السياسية والإعلام في الدول المغاربية، وواقع صحافة اليسار وموت الإيديولوجيا في فرنسا، كما تجوّل بنا في ساحات موسكو وأعادنا إلى زمن لينين، معرجا على تركيا باستحضار مآلات التجربة السياسية لأردوغان وعلاقتها بهوية الأتراك في رواية أروهان.

 

هكذا تتجلى ملامح جمال المحافظ، الإعلامي والأكاديمي والإنسان... ملامحٌ تنكشف جليًا بمجرد النبش في حفرياته الصحفية لتحكي عن مسار مهني ناجح، وعن عطاء أكاديمي زاخر، وعن فعل اجتماعي ملتزم... "ملامح تنقش صورة المواطن جمال المحافظ"، بتعبيـر ذ. اليزمي، حيث تتجذر تجربةٌ متفردةٌ ذات أبعاد كثيرة، يمتـزج فيها الذاتي بالموضوعي، والكائن بالممكن، والراهن بالتاريخي. تجربة تعبر عن بوْح وتوثيق لسيرة كاتب مُمارسا ومسؤولا، وسيرة لجيله ورفاقه ومعلميه، على حد قول عبد الله البقالي، رئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية.