أصدر الملك محمد السادس "ظهيرا" هاما لتنظيم العلاقة بين رجال الدين والسياسة. والقانون الجديد يدخل ضمن إطار "إصلاح الحقل الديني" الذي انتهجه العاهل المغربي منذ توليه الحكم أو بعد ذلك بقليل. ومعلوم أن "المدونة" الشهيرة التي نظمت علاقات الأسرة والزواج وأعطت المرأة المغربية الكثير من حقوقها المهضومة، كانت قد لقيت صدى واسعا في الأوساط المثقفة العربية والعالمية. وأشاد بها كثيرون في الشرق والغرب. وهذه الإصلاحات الجريئة تهدف إلى حماية الدين من الاستغلال السياسي المنحرف، الذي أدى إلى كوارث كثيرة في شتى أنحاء العالم العربي والإسلامي. فرجل الدين مهمته الأولى إرشاد الناس وهدايتهم أخلاقيا وليس التدخل في كل شاردة وواردة من الحياة السياسية اليومية. للسياسة مجالها وللدين مجاله ولا ينبغي الخلط بينهما. كلنا يعلم مدى الضرر الهائل الذي لحق بالدين الحنيف جراء تسييسه الشديد، واستخدامه أداة لتبرير أعمال العنف والتفجيرات العشوائية والحروب الطائفية. ومعلوم أنها تكاد تدمر المشرق العربي حاليا. وبالتالي وجب وضع حد لكل ذلك. ثم يجب بشكل أخص تثقيف الشعب وتنويره عن طريق المدارس والمعاهد والجامعات وتفكيك الفكر المتطرف. فالإسلام هو دين العقل والوسطية لا دين التطرف والظلامية. هذا وقد شكل الإسلام أعظم حضارة في الماضي، وأعطى للبشرية دروسا في التسامح والانفتاح والاستنارة العقلية. لنفكر هنا ولو للحظة في الأندلس الزاهرة التي كانت جنة التسامح بالنسبة لجميع العائشين في ظل الحضارة العربية الإسلامية. ومعلوم أن الأندلس كانت امتدادا للأمة المغربية وعاصمتها مراكش الإمبراطورية. هذا دون أن ننسى فاس العظيمة بطبيعة الحال. فكيف انعكست الآية وأصبحنا في المؤخرة بعد أن كنا في المقدمة؟ لماذا انطفأت أنوار الأندلس؟ على من الحق؟ على الفهم الخاطئ والمبتسر للدين وليس على الدين ذاته. ولذا وجب التصحيح.
قد يتساءل أحدهم: لماذا يمنع العاهل المغربي الأئمة والخطباء وجميع المشتغلين في الحقل الديني من ممارسة السياسة أو التورط في حبائلها وإهمال واجباتهم الدينية؟ والجواب طبقا لاجتهادي الشخصي هو التالي: لأن الدين هو قدس الأقداس، أو كنز الكنوز. ولذا ينبغي حمايته من عبث العابثين. إنه يشكل، بحسب المصطلح الفلسفي الحديث، الرأسمال الرمزي الأعظم والأقدس للأمة. وبالتالي فإذا فسد فهمه أو تفسيره فسد كل شيء. إذا حصل التلاعب به لأغراض شخصية أو منافع انتهازية دخلت بذور الفتنة إلى الأمة وحصلت الاضطرابات والمشكلات وانحرفنا عن الصراط المستقيم. قديما قالوا: الحرب مسألة خطرة لا يمكن ترك شأنها للعسكريين. وكذلك نقول إن الدين مسألة خطرة لا يمكن ترك شأنه للمتطرفين. وعلى أي حال فلا تستقيم أحوال الأمة إلا بفهم صحيح ومستقيم للدين: أي فهم عقلاني، معتدل، رشيد. وهو ما يسعى إليه ملك المغرب. إنه يحاول إشعال أضواء الأندلس الإسلامية والعصر الذهبي مرة أخرى.
يضاف إلى ذلك سبب آخر لا يقل أهمية ووجاهة. وهو أن الدين ملك للأمة جمعاء، وليس فقط لطبقة رجال الدين أو لفئة معينة من الفئات التي قد تختطفه وتستولي عليه في غفلة من الزمن. لهذا السبب فإن قانون الانتخابات في المغرب يمنع، وبحق، استعمال المساجد في أي حملة انتخابية ومن طرف أي جهة كائنة من كانت. لماذا؟ لأنك إذا ما احتكرت اسم الدين العظيم لصالحك، ربحت السلطة حتى من دون الحاجة إلى انتخابات! ثم إن الجميع مسلمون في المغرب، وبالتالي فلا يحق لأي فئة أن تحتكر الدين لصالحها وتتباهى على بقية المغاربة وكأنهم ليسوا مسلمين! فلنترك الدين إذن على حدة عندما تحتدم المعارك السياسية فيما بيننا. ولنستخدم المحاجات الاقتصادية والسياسية العقلانية في المنافسات السياسية والمعارك الانتخابية. فمن يخدم الشعب أكثر ويربح المعركة حلال عليه!
قلت "خدمة الشعب" وهنا أصل إلى بيت القصيد. كان الاتحاد الأوروبي في تقريره العام عن المغرب قد أشاد بالدستور الجديد والمكتسبات الديمقراطية التي تحققت في البلاد طيلة السنوات الأخيرة. ولكنه دعا إلى المساواة في توزيع الثروة وتضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء. والحال أننا لسنا بحاجة إلى الاتحاد الأوروبي لكي نفهم ذلك. فـ "العدل أساس الملك" كما تقول العرب. وبالتالي فتحسين أحوال الطبقات الشعبية، وإنجاح التنمية يمثلان ضرورة قصوى لمنع الناس من إلقاء أنفسهم في أحضان التطرف والمتطرفين. وهذا ما يحاول أن يفعله قائد المغرب، حيث ما إن ينتهي من تدشين مشروع في منطقة ما، حتى ينتقل إلى تدشين مشاريع جديدة في منطقة أخرى. وهكذا تحولت البلاد إلى ورشة عمل كبيرة أو خلية نحل ضخمة إذا جاز التعبير. ومؤخرا أمر فورا بمنح سبعين شقة مفروشة لضحايا البنايات المنهارة في الدار البيضاء، حيث حصلت قبل أيام فاجعة وطنية وإنسانية حقيقية. أما فيما يخص "الربيع العربي" فلست من المزايدين الديماغوجيين الذين يريدون كل شيء دفعة واحدة أو اللاشيء. وإنما أفضل على ذلك الإصلاحات التدريجية المعقولة، ريثما يكون الشعب قد نضج وتنور وأصبح قادرا على استيعاب الحريات الديمقراطية وممارستها بشكل صحيح وسليم. ولسان حالي قول المفكر الفرنسي مارسيل غوشيه أحد كبار منظري الفلسفة الديمقراطية في الغرب. فقد صرح مؤخرا بما يلي: "الديمقراطية ليست مجرد قوانين فوقية أو خطابات إنشائية، وإنما هي طريقة جديدة في التفكير والعيش المشترك داخل المجتمع. إنها تعني الاعتراف بمشروعية الخصم المخالف لك في الرأي وحقه في التعبير عن ذاته. وهذا شيء عسير للغاية وشاق على النفس.. ينتج عن ذلك أن الديمقراطية لا تكتسب إلا بصعوبة بالغة وألم مرير من قبل الأفراد. ليس من السهل أن تكون ديمقراطيا! ولكي تتحقق الديمقراطية في مجتمع ما يلزم وقت طويل. لقد نسج البعض أحلاما وردية حول الربيع العربي. ولكن كل هذا ليس إلا ثرثرات متسرعة وأوهاما طوباوية. ينبغي أن نعود إلى أرض الواقع وندرك أن الديمقراطية صيرورة عميقة جدا وطويلة جدا جدا. لقد لزمنا نحن الأوروبيين ثلاثة قرون لكي نتوصل إليها ونهضمها. وبالتالي فإذا ما استطاعت الشعوب العربية أن تحققها في العقود الثلاثة المقبلة فسيكون ذلك بمثابة المعجزة الخارقة".
(عن "الشرق الأوسط")