الجمعة 7 فبراير 2025
فن وثقافة

الناقد الروائي عثماني: رواية الراحل توفيق مصباح جمعت التخييلي والعجائبي (مع فيديو)

الناقد الروائي عثماني: رواية الراحل توفيق مصباح جمعت التخييلي والعجائبي (مع فيديو) الناقد الروائي عثماني الميلود وفي الإطار غلاف كتاب "حليب هيفاء الطبيعي"
اختلطت المشاعر في حفل تقديم كتاب "حليب هيفاء الطبيعي" للزميل الراحل توفيق مصباح، سكرتير تحرير المجموعة الإعلامية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"، وذلك يوم الثلاثاء 13 يونيو 2023، بمركب الصقلي بالدار البيضاء. حفل حضره أفراد أسرة وعائلة الراحل مصباح، وزملاؤه في المهنة إلى جانب عدد من المثقفين والمبدعين، وقد تم خلال هذا الحفل التكريمي تقديم كلمات في حق الراحل توفيق مصباح الذي رحل عنا في فورة وغمرة شبابه وعطائه، لكنه يبقى حاضرا في قلوب أسرة التحرير، ممن لفوا وشاح المحبة حول روحه في هذا اللقاء.
فيما يلي الكلمة التي ألقاها الناقد الروائي عثماني الميلود: 

توفيق مصباح ليس طارئا على السرد ولا متطفلا عليه؛ قاص وسيناريست وكان قيد حياته سكرتير تحرير المجموعة الإعلامية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"..
من الاستراتيجيات التي طورها توفيق منذ عشرات السنين، قدرته الفائقة على مراقبة الواقع المغربي والعربي مراقبة حثيثة ومستديمة، جامعا بين حنكة المؤرخ وذكاء السينمائي وحساسية صانع التخييل.
ومن الأمور التي انماز بها الكاتب، خلال السنين الأخيرة، إحداث تركيبة عجيبة بين الواقعي والتخييلي، بطريقة، تحيل على شخصيات وأحداث واقعية، لكنه يشحنها بطاقة تخييلية، لدرجة يصعب فيها تمييز الواقعي من التخييلي. ولقد ذكرتني هذه الاستراتيجية الخطابية بالسؤال الأزليّ الذي طرحه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، عام 1964: ما الأدب؟ لن نكلف أنفسنا عناء الجواب مجددا على هذا السؤال الكبير والواسع، غير أننا نقول: إن اقتراح رؤيا للعالم من خلال هذه "الخلطة" العجيبة هو تفصيل من تفصيلات حركة ما بعد الحداثة، ممثلة في التشظي والشك في الحقائق والسعي إلى تفكيكها، وتسليط الضوء على المحلّي والشّعبي. وإنّ حركة ما بعد الحداثة سعتْ، بكل ما أوتيت من قوة، إلى الانقلاب على كل قيم الحداثة، فقد كان من الضروري البحث عن صنافات أجناسية تحقق ذلك. من الثورات الأولى على حركة الحداثة، ظهور التخييل الذاتي، مع سيرج دوبروفسكي(1977)، وهو شكل تخييلي واقعي يتم فيه المزج بين الرواية والأوطوبيوغرافيا؛ غير أن الثورة الأولى ستتحول إلى انقلاب هائل على القيم الجمالية الكلاسيكية والحداثية دفعة واحدة، فمع الأعمال التخييلية الأولى لفيليب فاسي(2003، 2007، 2013) سيظهر نوع جديد من التخييل يقوم أساسا على عملية بناء الواقع بدل الانغماس الدائم في الكتابة عن الذات. وهذا الاختيار يوافق مزاج توفيق مصباح من حيث هو حائز على ذوق مضاعف؛ صحفي وصانع تخييل، قرر، بوعي تام، أن يجمع بين صبر السوسيولوجي وتركيز السيكولوجي وتفاني الدارس الثقافي ومتأمل الصور والشخوص والقيم. كانت "الحقائق" ديدنه، لكنه لا يبالي بها إلا بالقدر الذي تسعفه على فهم الأشياء والأعماق والشخصيات الأشد عمومية ورواجا في الميلتميديا الحديثة. وفي هذه الحالة قد تبدو كتابة توفيق مصباح أشد تطرفا وثورة على الاقتصاد التخييلي المألوف، من حيث خلق تيمات هامشية جديدة تنبثق من أمزجة الشخصيات الأشد ابتذالا في العالم العربي، ومن الوثائق والوثائقيات والإشهار، كل ذلك من أجل تشييد عوالم (تخييلية) مهمشة، لهذا سيكون من الصعب على الذوق الكلاسيكي والحداثي أن يَعُدّا سرد توفيق مصباح تخييلا أو أدبا، ولا شك أن دعاته سيوجهون له اللوم، لأنه آثر أن يصطاد الحقيقة بدل أن يلونها، وقرر أن يخفي الحدود بدل إظهارها، وأن يستلهم السرديات التاريخية بدل أن يصدقها.
تندرج نصوص المجموعة ضمن هذه الخانة المسماة التخييل الواقعي ((Exofiction. والتخييل الواقعي، في هذه المجموعة، يقدم لنا عالما حيث الحدود بين التخييلي والواقعي غير واضحة. وهو، بهذا الصنيع، يستوحي الواقع شأنه شأن البيوغرافيات التخييلية والتخييل الذاتي واللاتخييل الروائي والروايات المستوحاة من الواقع، وهي صنافات شوشّتْ على الحدود بين التخييل والبيوغرافيا، موظفة شخصيات مشهورة، نسبيا، أو استلهمت مرويات تاريخية لعصور مختلفة. 
ولو سعينا للاقتراب من"المطبخ التخييلي" لتوفيق مصباح، وتأملنا، على سبيل المثال، قصته المعنونة ب"حليب هيفاء الطبيعي"، لصار بإمكاننا تسجيل الملاحظات الأولية الآتية:
1- يتخذ هذا النص القصصي من شخصية "هيفاء" إطارا عامليا، ومن بعض جوانب سيرتها وصفاتها إطارا مرجعيا. 
2- اتخاذه جزءا من سيرة هيفاء الحقيقية لم يمنع السارد من ركوب الفانطازم والتخييلي والعجائبي كي يقوض المسافة بين البيوغرافي والتخييلي، ويمارس أقصى درجات الكتابة المتحررة من أي تعاقد مسبق؛ 
3-  هيفاء ليست سوى تعلة لمعالجة أزمة الحليب المستفحلة؛ 
4- يوظف السارد لعبا مرآويا طرفاه، من جهة أولى"شخصية البقرة الضاحكة" التي أضحت أشهر من كل المشهورين بفعل سلطة الإشهار. وطرفه الثاني "شخصية هيفاء"، والواحد لا يعرف أين تبدأ شخصية البقرة وأين تنتهي شخصية هيفاء؛ 
5- يمارس السارد (أحيانا بضمير الغائب، كأي سارد مهذب، وأحيانا أخرى، يخاطبها بوجهه المكشوف، من خلال ضمير المتكلم) تحليلا لذاتين مختلفتين؛ إحداهما واقعية (هيفاء) والأخرى تخييلية (البقرة الضاحكة) وموقفهما المازوم، مع سرد استعراضي وعار ومكشوف (وصف جسد هيفاء)، وسرد استعراضي (وصف البقرة الضاحكة، خاصة في ميولها وتحولاتها)؛ 
6- اعتمد السارد على فضاءات واقعية؛ منها ما يتعلق بهيفاء (الحمام، غرفة النوم)، ومنها ما يتعلق بالبقرة الضاحكة (الكوري، مكتب الوزير)؛ 
7-  إن الملاحظات السالفة الذكرة، تضطرنا إلى طرح سؤالين جوهريين بخصوص هذا التوجه الذي تسير فيه وإليه الكتابات السردية القصصية المغربية: 
أ‌- هل تشكل كتابة التخييل الواقعي بداية ضعف التخييلي لدى توفيق مصباح وغيره من كتاب هذا الصنف من الكتابة التخييلية الواقعية؟ 
ب‌- ما الصلة الموجودة بين التخييل الواقعي والتخييل التاريخي؟ 
لا يمكن، في هذا الحيز، ان نجيب على هذين السؤالين الإشكالين، ولكن بإمكاننا أن نجازف بالقول: إن التخييل الواقعي، هو بمثابة استعادة لإحدى استراتيجيات الرواية الواقعية العربية. فلو أخذنا قصص محمد زفزاف مثالا، لأمكننا القول بأن جل شخصياته، إن لم تكن كلها، من معارف الكاتب أو صديقاته، ولهذا نندهش من درجة أصالتها، وقدرة السارد على استعادة سمات الشخصيات والأحداث والأماكن والأزمنة، ونفس التأكيد يمكن أن نعممه على قصص محمد شكري وبول بولز وغيرهما.
مجموعة توفيق مصباح"حليب هيفاء الطبيعي"، هي مدونة شديدة التعقيد من حيث الجسور التي تقيمها بين الواقعي والتخييلي، والإشكالات التي لا تفتأ ترسمها لعالم متشابك، هش، غامض ومفلس. القراءات المتعددة هي السبيل الوحيد لإعادة حل ضفائرها والانغماس في متاهاتها وتذوق حلوها ومرها.