الجمعة 7 فبراير 2025
فن وثقافة

عز الدين بوركة: كان توفيق مصباح يكتب بالفلفل الحار نصوصا تلسع بقوة (مع فيديو)

عز الدين بوركة: كان توفيق مصباح يكتب بالفلفل الحار نصوصا تلسع بقوة (مع فيديو) عز الدين بوركة من لقاء الوفاء وصورة للزميل الراحل توفيق مصباح
اختلطت المشاعر في حفل تقديم كتاب "حليب هيفاء الطبيعي" للزميل الراحل توفيق مصباح، سكرتير تحرير المجموعة الإعلامية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"، وذلك يوم الثلاثاء 13 يونيو 2023، بمركب الصقلي بالدار البيضاء. حفل حضره أفراد أسرة وعائلة الراحل مصباح، وزملاؤه في المهنة إلى جانب عدد من المثقفين والمبدعين، وقد تم خلال هذا الحفل التكريمي تقديم كلمات في حق الراحل توفيق مصباح الذي رحل عنا في فورة وغمرة شبابه وعطائه، لكنه يبقى حاضرا في قلوب أسرة التحرير، ممن لفوا وشاح المحبة حول روحه في هذا اللقاء.
فيما يلي الكلمة التي ألقاها  الروائي والناقد عز الدين بوركة، تحت عنوان: "واقعية توفيق مصباح المتهكمة"
 
سعيدٌ بأن أكون ممن تورطوا بمحبة في إظهار إلى العلن سرا جماليا، يُعلَن عليه اليوم في مراسيم هذا الاحتفاء والاحتفال المتوج بذكرى توفيق مصباح، الذي أحب الكل وأحبه الكل، الحامل لاسمه الموفق بأصدقائه وزملائه ومن أحبوه والمصباح المضيء لبعضهم، الذي رحل دون أن تخفت شُعلته.. توريط جمالي، قادني إلى أن أتعرف على توفيق الخارج عن كتابة اليومي الصحفي، وأتلصص على مفازاته السردية التخيلية المضيئة، التي تعيد عجن الواقع في مخبزةٍ عنوانها المرفوع على سقيفة الباب بالخط الواضح "خيال واقعي"، إنها مخبزة قصص بقدر ما تطل على شوارع الواقعي تفتح أبوابها على عوالم المتخيل والتخييل والمخيلة.
ولأن كل عملية كتابة، وعن الإبداعية منها أتحدث بالخصوص، تعدّ فعلا تخييليا بالأساس، فهي تشترط وعيا كتابيا يُلزم صاحبها بإعمال مخيلته في حكي ما يريد قصه على مساحات البياض الشاسعة للورق. كل ورقة هي حقل يسمح بتوليد أشجار وأنساب الخيال المتعددة. ولا يستقيم الإبداع دون هذا الأخير. عقيم هو دونه. 
فبقدر ما يستند نص توفيق مصباح على الواقع وأحداثه بوصفه مرجعا له، فهو يهرب به إلى مستويات من التهكم والسخرية اللاذعة، المبنية على تشييد معمار النص بشخوص من صنيع خيالاته، لكنها تعمل عمل النقد والانتقاد لما هو حاصل وطارئ، فهي بهذا المعنى تجد لنفسها جذورا في الذي هو خارج الخيال. كأني به يتحول السارد إلى سياسي بالسلب، بدل الاندراج والاندماج في صلب تيار سياسي مباشر، يُعلن عن مواقفه عبر الحبكة الفنية مستندة على لَبِناتٍ مطاطيةٍ، قابلةٍ للتمدد بين الخيال وخارجه، الواقع ومقابله.. بين داخل المخبزة وخارجها، حيث يُعِدُّ توفيق بروية عجائنه المستخلصة من المتاح والسري في آن، ليجعلها تنضج في فرنه على مهل.. أ لهذا كان مقلا في نشر نصوصه الإبداعية؟ لعل أصدقاءه المقربين يعرفون الإجابة الأدق. 
يكتب توفيق بالفلفل الحار، نصوصا حارقة لاذعة. لا تسعى للمهاجمة، لكنها تلسع بقوة. ولا يخفف لسعاتها أي لبن، إلا تلك النفحات الساخرة التي تتسرب إليها، من باب استعارة الواقعي الشديد الحساسية. محوّلا الأفضية الحية والشخوص الواقعية والأزمنة الحاضرة، داخل النص، إلى ذرائع جمالية الغرض منها مضاعفة الحياة.. إذ النص رغم كل حمولاته الاجتماعية والسياسية ليس مرآة عاكسة. 
أقارن مجازفا نصوص توفيق مصباح، بأعمال الفنان الصيني يُوي مينجون yue minjun المندرجة تحت لواء "الواقعية الساخرة"، التي بدأت في التسعينات بالصين. وقد نشأت نتيجة رغبة الفنانين الصينيين في التعبير الفردي، على عكس التفكير الجماعي الذي كان سائدا منذ الثورة الثقافية. مرتكزة موضوعاتهم الرئيسة، بشكل عام، على القضايا والأحداث الاجتماعية السياسية، بدءًا من الثورة الصينية (1911) حتى يومنا هذا. وذلك من خلال نظرة فُكاهية وما بعد الحوارية للمنظور الواقعي وتفسير المسار الذي سلكه المجتمع الصيني من ظهور الشيوعية إلى التصنيع والتحديث اليوم للبلاد. 
يسعى توفيق إلى إعادة النظر في الوقع والعالم من حولنا من خلال تلك اللسعات وتلك التهكمات التي نجترعها مُنسّمَةً بحليب هيفاء الطبيعي. معيدا التساؤل في ما نعده طبيعيا وعاديا.. بهذا المعنى فهو يعمد إلى تحويل نظراتنا في دعوة جمالية لإعادة الإمعان في الذي هو سائد. بنظرات ناقدة ونافذة. لا يبتغي توفيق في نصوصه هذه أي اهتداء إلى الواقعية الجافة، لكن بقدر ما يستعين بالواقعية المفرطة فهو يدمغها بالتهكم والسخرية.. في ما يشبه أعمال الفنانين النحات الواقعين المفرطين في تفاصيل أعمالهم، لكن نيتهم ليست إعادة تدوير ما هو كائن، بل جعله أكثر قابلية للنظر، أي بتعبير بول كلي "جعل المرئي مرئيا".. داخل قوالب متعددة منها التهكم.. الذي يأتي بوصفه شرطا من شروط الكتابة الجديدة. 
يضاعف بهذا توفيق الواقع، ويوضِحُهُ دون أي مباشرة تثقل النص، لكنه يتبع خطى نهج القسوة، منتهكا حرمة الواقع عينه، حينما يختلي به في شُطآن الخيال الفسيح، غير أنه بدل أن يَتـنَـزَّهَ ويتجمم في أرخبيل تلك البحار، يُلبس واقعه سترة القُساة ذوي الغُلظة، غير أنهم بدل أن يستعينوا بالأسواط للجلْد يستعملون ريشا ساخرة، في ما يشبه مشاهد كاريكاتورية.. غير أنها مشاهد لا تستعين بأي تضخيم أو تشويه بقدر ما تعمد إلى تخييل الواقع، وتسخير الخيال في خدمة القضايا الراهنة والواقعة. 
لقد كان توفيق مصباح بهذا المعنى، في نصوصه السردية، سياسيا بالسلب. وواقعيا في خيالاته ومتخيلا في واقعه.