اختلطت المشاعر في حفل تقديم كتاب "حليب هيفاء الطبيعي" للزميل الراحل توفيق مصباح، سكرتير تحرير المجموعة الإعلامية "الوطن الآن" و"أنفاس بريس"، وذلك يوم الثلاثاء 13 يونيو 2023، بمركب الصقلي بالدار البيضاء. حفل حضره أفراد أسرة وعائلة الراحل مصباح، وزملاؤه في المهنة إلى جانب عدد من المثقفين والمبدعين، وقد تم خلال هذا الحفل التكريمي تقديم كلمات في حق الراحل توفيق مصباح الذي رحل عنا في فورة وغمرة شبابه وعطائه، لكنه يبقى حاضرا في قلوب أسرة التحرير، ممن لفوا وشاح المحبة حول روحه في هذا اللقاء.
فيما يلي الكلمة التي ألقاها الصحافي والروائي سعيد منتسب:
فيما يلي الكلمة التي ألقاها الصحافي والروائي سعيد منتسب:
صديقي توفيق!
شيء سري وغامض ظللت أمتلئ به وأنا أحدثك للمرة الأخيرة.
نظرتك المشدودة إلى شيء لا يراه سواك.
ربما كنت تنظر إلى ارتعاشة قديمة في ذلك الحيز الضاج بالحبر الذي جمعنا معا، أو ربما إلى قطرتي الندى اللتين تتدحرجان بعمق في مهاوي قلبك (غيثة ومحسن)، أو إلى سماء الغيث (فتيحة)، أو إلى مقطع أخضر من الحكاية التي غزلناها بالعرق والحكايات والأحلام (أمك السعدية).
في تلك اللحظة، كأنه ابتسم أيها الأصدقاء، كأنه رأى ما لم نر. وجها نورانيا يرشده إلى المعنى. سرا يتلألأ في وجودنا الأبقى، هناك حيث لا جدران ولا أبواب. أراض أخرى من ذهب وزعفران وروح وريحان.
توفيق الساخر كان يحرك أصابعه، كيفما اتفق، في الفراغ ليجعلنا نصدق أنه لا يخيط رحيله المفاجئ. خرجتُ سعيدا سعيدا، رغم ذلك التردد الذي يأكلني، لأنه قرر أخيرا الخروج من غيبوبته. قال عن المرض إنه قاطع طريق، وأنا استمعت إلى قصته منذ بدايتها، حين كنا نتهجى معا أطراف الأرض. لم يتغير توفيق. لم يأكله الطول والعرض، والعمق والارتفاع. ظل مطلقا العنان لقلبه منذ أن تعرفت عليه بكلية الآداب بنمسيك. أتى إلى الكلية باحثا عن أشباهه. كان يتلظى قصصا ولغة وحلما وشوقا إلى الضوء. يكتب كأنه يعزف عاصفةً، يطلق جياده المتمردة في النص، فتتحول كلماته إلى لآلي لا أول لها ولا آخر، كأنه توفيق آخر. يكتب باستمرار ودأب، يصطاد الحكايات سمكة سمكة، ويحرص أن يلقيها في مياه روحه حتى لا تموت. نشر الكثير من النصوص في جريدة "الصحراء المغربية"، يسابق نفسه في الغيوم المرفوعة في خياله، ويقيسها بنصوص صديقيه الحميمين منير باهي وسعيد الشفاج ومصطفى القلوشي. يمتلئ بضحك كثير كلما رأى اسمه في الجريدة، ثم يرفع رأسه ويمضي.
وعرفته في حلقة الكتابة الإبداعية التي كان يشرف عليها الأستاذ مولاي علي القرشي، وبعده الأساتذة عبد الفتاح لكرد ومصطفى الجباري وقاسم مرغاطا ولطيفة لبصير، نلتقي كالأشرعة في سفينة الحلم. وبدأ اللقاء الأسبوعي يتحول إلى لقاء يومي، ثم صرنا لا نفترق. نطارد الحلم الذي اشتهيناه في المكتبات والمقاهي ودار الشباب. يلاحق روايات عبد الرحمن منيف الذي يعتبره سقفا روائيا. قرأها كلها، ونام فيها واستيقظ. أذكر أنه دلني على كتابات مؤنس الرزاز، أشهر في وجهي "أحياء في البحر الميت"، وأشهرت في وجهه "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي. تبادلنا الروايات والدواوين الشعرية وكتب النقد الأدبي والأحلام، واتفقنا على أسماء واختلفنا حول أخرى، وسرنا في ممرات مجهولة، ننزلق في الظلام، ثم نصنع من عنادنا حبالا من نور.
وها أنا أراه اليوم جبلا من ورد يبكيه أصدقاؤه بمرارة، وأمضي إليه مخفورا بضباب ناعم ذي نكهة ملائكية، وأذكر أنه أهداني بحثه الجامعي لنيل الإجازة في اللغة العربية، قائلا بالحرف: "الشيطان الذي يركبك، يركبني أيضا"، ولم يكن لنا من شيطان يسلبنا العمر سوى حقول الأدب المزدحمة بالأنبياء.
وأذكر أننا التقينا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وظل مسترسلا في الكتابة كأن جوعا منسيا يمسك بأصابعه. يكتب في كل المواضيع بدربة ورشاقة. يصحح اعوجاج الكلمات، ويتابع عن كثب "الإنتاجات التلفزيونية". ألم يكن معلمه هو الراحل الكبير مصطفى المسناوي؟ لاذعا وساخرا كان، ومتابعا جيدا لما يمور تحت الأسيجة، يستهدي بإرشادات المعلم، ويترك معرفته تتراكم وتتسع وتنضج، يفاجئني كثيرا بما لا أعرفه. يكتب ولا يتثاءب. يصر على السبق والإجادة، والتحديق طويلا في شاشات العالم، ولم يتخل عن القصة. ظل يكتبها في أوقات الصفاء إلى نفسه..
ثم التحق بأسبوعية "البيضاوي" التي ارتمى بين ذراعيها كقلم في أول اهتزازه. ضم كلماته إلى كلمات الصحافي القدير عبد الرحيم أريري، فتعلم كيف يقبض على الجمر، وظل قيمة مضافة لـ"البيضاوي" التي تعمَّدت باسم جديد "الوطن الآن" قبل أن ينضاف إليها موقع "أنفاس بريس". ظل يسهر إلى آخر الليل، يكتب البورتريهات المطرزة والحوارات الافتراضية الساخرة والمقالات الفنية الزاخرة بكل معارفه. يكتب بأصابع كاملة، ممتزجا حتى الأخامص بزملائه: مريم خونا وبوجمعة أشفري ومحمد بوستة ومنير الكتاوي وسعيدة المخنث ويوسف الخطيب ورشيد الصولدي وفاطمة ياسين وخالد الزهوي ومنى التحتي وعبد الله أريري ومنى الصولدي.. وآخرين. ومع ذلك، ظل توفيق وفيا لقلبين من "الاتحاد الاشتراكي" بادلاه حبا بحب وأشجار بأشجار، يزورهما باستمرار، ويدلف إلى دفئهما وهو في كامل اخضراره: حفيظة الفارسي وعماد عادل. كان يحتمي بهما دائما من آلامه وجراحه ومخاوفه، يهرب إليهما من الكسل والفوضى، لأنه كان يدرك جيدا أنهما الربيع الذي ينحني على شتائه.
لم يتغير توفيق. قد يستاء، لكنه يستاء دون دموع كاذبة. وحين يلقاك يسارع إلى إدخال استيائه في سبات عميق. المحبة لديه هي الأصل، والباقي مجرد اختلاجات. تزوج توفيق، وأصبح الفرح مهنته. وجد في زوجته الطيبة والخلوق (فتيحة) ملاذا آمنا من كل الانكسارات القديمة، وتعلم سريعا أن "الحياة أشجار وحطاب"، وأن الأسلوب هو الحرص على الاخضرار. وجاءت فرحته الأولى محسن (ابنه)، والثانية غيثة (ابنته)، واصطخب الورد في دمه. صار توفيق أجمل في بيته، يلهو بالأفلام ويكتب السيناريوهات والقصص، ويعالج المقالات ويجعلها ترتدي الكثير من أناقته. وفي كل هذا الخضم، كان يجد وقتا وثيرا لأصدقائه الكثيرين. يتصبب شوقا إليهم، ويزورهم في منازلهم ومقاهيهم المعتادة، يسأل عن هذا وذاك في الأعراس والمآتم. يخدمهم بأهدابه، ويجعلهم في حضوره كأنهم يملكون اللآلئ.
توفيق مصباح لا يملك الجدران، بل يصنع النوافذ.. ويا صديقي، يا أخي، يا زميلي، يا رفيقي، يا توأمي، كل الأنفاس بعدك صحراء لا حدود لها. كم أشعر الآن بأنك كنت سقفا ومروحة ! كم أشعر الآن بأني أفتقدك حرفا حرفا، وقصة قصة، وفيلما فيلما!
كنت دائما الأفضل، لأن كنت تجعل من كل لقاء موعدا أول!
شيء سري وغامض ظللت أمتلئ به وأنا أحدثك للمرة الأخيرة.
نظرتك المشدودة إلى شيء لا يراه سواك.
ربما كنت تنظر إلى ارتعاشة قديمة في ذلك الحيز الضاج بالحبر الذي جمعنا معا، أو ربما إلى قطرتي الندى اللتين تتدحرجان بعمق في مهاوي قلبك (غيثة ومحسن)، أو إلى سماء الغيث (فتيحة)، أو إلى مقطع أخضر من الحكاية التي غزلناها بالعرق والحكايات والأحلام (أمك السعدية).
في تلك اللحظة، كأنه ابتسم أيها الأصدقاء، كأنه رأى ما لم نر. وجها نورانيا يرشده إلى المعنى. سرا يتلألأ في وجودنا الأبقى، هناك حيث لا جدران ولا أبواب. أراض أخرى من ذهب وزعفران وروح وريحان.
توفيق الساخر كان يحرك أصابعه، كيفما اتفق، في الفراغ ليجعلنا نصدق أنه لا يخيط رحيله المفاجئ. خرجتُ سعيدا سعيدا، رغم ذلك التردد الذي يأكلني، لأنه قرر أخيرا الخروج من غيبوبته. قال عن المرض إنه قاطع طريق، وأنا استمعت إلى قصته منذ بدايتها، حين كنا نتهجى معا أطراف الأرض. لم يتغير توفيق. لم يأكله الطول والعرض، والعمق والارتفاع. ظل مطلقا العنان لقلبه منذ أن تعرفت عليه بكلية الآداب بنمسيك. أتى إلى الكلية باحثا عن أشباهه. كان يتلظى قصصا ولغة وحلما وشوقا إلى الضوء. يكتب كأنه يعزف عاصفةً، يطلق جياده المتمردة في النص، فتتحول كلماته إلى لآلي لا أول لها ولا آخر، كأنه توفيق آخر. يكتب باستمرار ودأب، يصطاد الحكايات سمكة سمكة، ويحرص أن يلقيها في مياه روحه حتى لا تموت. نشر الكثير من النصوص في جريدة "الصحراء المغربية"، يسابق نفسه في الغيوم المرفوعة في خياله، ويقيسها بنصوص صديقيه الحميمين منير باهي وسعيد الشفاج ومصطفى القلوشي. يمتلئ بضحك كثير كلما رأى اسمه في الجريدة، ثم يرفع رأسه ويمضي.
وعرفته في حلقة الكتابة الإبداعية التي كان يشرف عليها الأستاذ مولاي علي القرشي، وبعده الأساتذة عبد الفتاح لكرد ومصطفى الجباري وقاسم مرغاطا ولطيفة لبصير، نلتقي كالأشرعة في سفينة الحلم. وبدأ اللقاء الأسبوعي يتحول إلى لقاء يومي، ثم صرنا لا نفترق. نطارد الحلم الذي اشتهيناه في المكتبات والمقاهي ودار الشباب. يلاحق روايات عبد الرحمن منيف الذي يعتبره سقفا روائيا. قرأها كلها، ونام فيها واستيقظ. أذكر أنه دلني على كتابات مؤنس الرزاز، أشهر في وجهي "أحياء في البحر الميت"، وأشهرت في وجهه "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإميل حبيبي. تبادلنا الروايات والدواوين الشعرية وكتب النقد الأدبي والأحلام، واتفقنا على أسماء واختلفنا حول أخرى، وسرنا في ممرات مجهولة، ننزلق في الظلام، ثم نصنع من عنادنا حبالا من نور.
وها أنا أراه اليوم جبلا من ورد يبكيه أصدقاؤه بمرارة، وأمضي إليه مخفورا بضباب ناعم ذي نكهة ملائكية، وأذكر أنه أهداني بحثه الجامعي لنيل الإجازة في اللغة العربية، قائلا بالحرف: "الشيطان الذي يركبك، يركبني أيضا"، ولم يكن لنا من شيطان يسلبنا العمر سوى حقول الأدب المزدحمة بالأنبياء.
وأذكر أننا التقينا في جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وظل مسترسلا في الكتابة كأن جوعا منسيا يمسك بأصابعه. يكتب في كل المواضيع بدربة ورشاقة. يصحح اعوجاج الكلمات، ويتابع عن كثب "الإنتاجات التلفزيونية". ألم يكن معلمه هو الراحل الكبير مصطفى المسناوي؟ لاذعا وساخرا كان، ومتابعا جيدا لما يمور تحت الأسيجة، يستهدي بإرشادات المعلم، ويترك معرفته تتراكم وتتسع وتنضج، يفاجئني كثيرا بما لا أعرفه. يكتب ولا يتثاءب. يصر على السبق والإجادة، والتحديق طويلا في شاشات العالم، ولم يتخل عن القصة. ظل يكتبها في أوقات الصفاء إلى نفسه..
ثم التحق بأسبوعية "البيضاوي" التي ارتمى بين ذراعيها كقلم في أول اهتزازه. ضم كلماته إلى كلمات الصحافي القدير عبد الرحيم أريري، فتعلم كيف يقبض على الجمر، وظل قيمة مضافة لـ"البيضاوي" التي تعمَّدت باسم جديد "الوطن الآن" قبل أن ينضاف إليها موقع "أنفاس بريس". ظل يسهر إلى آخر الليل، يكتب البورتريهات المطرزة والحوارات الافتراضية الساخرة والمقالات الفنية الزاخرة بكل معارفه. يكتب بأصابع كاملة، ممتزجا حتى الأخامص بزملائه: مريم خونا وبوجمعة أشفري ومحمد بوستة ومنير الكتاوي وسعيدة المخنث ويوسف الخطيب ورشيد الصولدي وفاطمة ياسين وخالد الزهوي ومنى التحتي وعبد الله أريري ومنى الصولدي.. وآخرين. ومع ذلك، ظل توفيق وفيا لقلبين من "الاتحاد الاشتراكي" بادلاه حبا بحب وأشجار بأشجار، يزورهما باستمرار، ويدلف إلى دفئهما وهو في كامل اخضراره: حفيظة الفارسي وعماد عادل. كان يحتمي بهما دائما من آلامه وجراحه ومخاوفه، يهرب إليهما من الكسل والفوضى، لأنه كان يدرك جيدا أنهما الربيع الذي ينحني على شتائه.
لم يتغير توفيق. قد يستاء، لكنه يستاء دون دموع كاذبة. وحين يلقاك يسارع إلى إدخال استيائه في سبات عميق. المحبة لديه هي الأصل، والباقي مجرد اختلاجات. تزوج توفيق، وأصبح الفرح مهنته. وجد في زوجته الطيبة والخلوق (فتيحة) ملاذا آمنا من كل الانكسارات القديمة، وتعلم سريعا أن "الحياة أشجار وحطاب"، وأن الأسلوب هو الحرص على الاخضرار. وجاءت فرحته الأولى محسن (ابنه)، والثانية غيثة (ابنته)، واصطخب الورد في دمه. صار توفيق أجمل في بيته، يلهو بالأفلام ويكتب السيناريوهات والقصص، ويعالج المقالات ويجعلها ترتدي الكثير من أناقته. وفي كل هذا الخضم، كان يجد وقتا وثيرا لأصدقائه الكثيرين. يتصبب شوقا إليهم، ويزورهم في منازلهم ومقاهيهم المعتادة، يسأل عن هذا وذاك في الأعراس والمآتم. يخدمهم بأهدابه، ويجعلهم في حضوره كأنهم يملكون اللآلئ.
توفيق مصباح لا يملك الجدران، بل يصنع النوافذ.. ويا صديقي، يا أخي، يا زميلي، يا رفيقي، يا توأمي، كل الأنفاس بعدك صحراء لا حدود لها. كم أشعر الآن بأنك كنت سقفا ومروحة ! كم أشعر الآن بأني أفتقدك حرفا حرفا، وقصة قصة، وفيلما فيلما!
كنت دائما الأفضل، لأن كنت تجعل من كل لقاء موعدا أول!