الخميس 25 إبريل 2024
فن وثقافة

أوراق تاريخية...تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (2)

أوراق تاريخية...تعليم الرماية وصناعة البارود على يد أشياخ أحمر بجنوب المغرب (2) العلامة محمد المنوني بحانب فارس من فرسان التبوريدة

كانت سنة 1972 ، بداية إصدار مجلة الأبحاث العامة "الباحث"، وهي السنة الأولى التي رأى فيها النور المجلد الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة والتعليم العالي والثانوي والأصيلي وتكوين الأطر ـ مديرية الشؤون الثقافية بالرباط ـ

وكان ضمن مواد مجلة "الباحث" في سنتها الأولى (المجلد الأول) سنة 1972، وثيقة تاريخية ذات أهمية بالغة على مستوى التقديم والتحقيق، عنوانها البارز: "قطعة عن نشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي"، على اعتبار أن صاحبها هو العلامة محمد المنوني، والذي كان يعد من أعلام المغرب، بصفته حارسا على التراث الثقافي، بعد أن خبر المخطوطات والوثائق والكتب، وأصبح رحمه الله خزانة متحركة، ومرجعا أساسيا لكل الدارسين والباحثين في التاريخ والتراث.

في هذا السياق تنشر جريدة "أنفاس بريس" الحلقة الثانية من مساهمتها في النقاش العمومي الذي تعرفه الساحة الثقافية والفكرية عامة والمشهد التراثي المغربي خاصة، بعد إدراج فن التبوريدة ضمن قائمة التراث اللامادي بمنظمة اليونيسكو، على اعتبار أن الوثيقة التي بين أيدينا تشكل مرجعا أساسيا لتاريخ مدارس تعليم "الرِّمَايَةْ"، وشيوخها و الَمْقَدْمِينْ.

مدارس الرماية وحفلات تنافس الرماة...ونزع سلاح البنادق

بعد أن أوردنا في الحلقة السابقة ضمن مقالنا تحت عنوان: ( أوراق تاريخية...من "عساكر النار" إلى "رماة" ببنادق البارود)، بعض مناطق وجهات المغرب، والتي عرفت بشيوخها ومُقَدِّمِيهَا ومدارسها في الرماية (الشمال والجنوب)، بعد ذلك، سنعرج على منقطة أخرى تحدثت عنها وثيقة العلامة المرحوم الأستاذ محمد المنوني، حيث اعتبرها من بين الجهات التي انتشرت بها تعاليم المدرسة الحمرية، و يتعلق الأمر بـ "قبيلتا بني حسن والغرب".

أما بمنطقة سوس ـ حسب نفس الوثيقة ـ بمجلة "الباحث"، فقد اشتهر اسم مقدم الرماة أبي العباس أحمد بن إبراهيم العمري الماسي، وكان بقيد الحياة أوائل عام 1270 هجرية الموافق لـ 1853 م، وهو من تلاميذ محمد بن موسى الخلاطي الشريف الآخذ (الرماية) عن الرئيس أبي العباس أحمد بن زعيم. كما يذكر ـ في نفس السياق ـ إسم الكبير الإدريسي وكان ينتمي لمدرسة الرماة للشيخ محمد بن حدو المطيري من أيت قاسم، عام 1825 هجرية.

ومن المعلوم أن هذه التشكيلات الشعبية ذات الصلة بالرماية، كانت تقيم منافسات سنوية بمختلف المناطق، حيث يتبارون خلالها الرماة ويظهرون مهاراتهم في رماية الأهداف، وهذا ما أكده العلامة الأستاذ محمد المنوني بقوله في ذات الوثيقة: "وقد كان من تقاليد المغرب القديم أن يقيم الرماة في مختلف جهات المغرب حفلات سنوية يجتمعون فيها تحت أنظار مقدميهم، فيتبارون في الرّمي وإصابة الأغراض، ويقيمون لذلك مآدب فاخرة...".

مما يفيد بأن شيوخ ومقدمين مدارس الرماية كان همهم الوحيد هو تعليم أصول الرماية وإعداد الفرسان لمواجهة المغتصب، والدفاع عن حوزة المجال الجغرافي الذي يقيمون فيه، ويحمون الناس من كل الهجمات المحتملة للعدو.

ولم تغفل الوثيقة التاريخية الإشارة إلى زمن الاحتلال ونزع البنادق من الرّماة، حيث لم يعد هناك أفق واضح لإقامة تلك الحفلات السنوية التي كان يتباروا فيها الفرسان والرّماة تحت أنظار مقدميهم، حيث لمّح العلامة محمد المنوني بالقول: "...حتى إذا جاء الاحتلال، ونزعت البنادق من الناس، تُنُوسِيَتْ هذه الحفلات بالمرة". أي أن حفلات التنافس لم تعد تقام في مواعيدها السنوية حتى تناساها أهل الرماية بفعل قرار نزع البنادق (السلاح) من الناس من طرف المستعمر الغاشم.

انعكاس نشاط تعليم الرماية بالمدرسة الحمرية على التأليف والنظم

في سياق متصل أشار الفقيه العلامة محمد المنوني، إلى انعكاس نشاط المدرسة الحمرية على مستوى الرماية، على التأليف والنظم حيث تم كتابة موضوعات متعددة في هذا الصدد، سواء باللغة العربية الفصيحة، أو بواسطة الرسائل أو النثر أو الشعر الفصيح، بالإضافة إلى نظم قصائد الملحون.

ومن بين الرسائل المختصرة التي تطرقت إلى آداب الرماية، يذكر محمد المنوني موضوع رسالة : "أحكام التحقيق، وما يدل أهل الرماية على الطريق"، (مؤلفها غير مذكور)، وهو شرح لرسالة وجيزة يحاكي طريقة المختصر الخليلي والتي تتضمن ثلاثة أبواب:

أولا: باب ما يجب على الإنسان إذا أراد أن يدخل في طريقة أهل الرماية، وهي ثلاثة: "النية ـ والشيخ ـ وآلات الرمي ". (ومعنى آلات الرمي : البندقية وما تقوم به من البارود والرصاص..).

ثانيا: باب ما يجب على الشيخ في حالة تعليمه، وهي: (العلم والمعرفة بأحكام الرماية، والمعرفة بصنعة البارود).

ثالثا: باب شروط أهل الرماية من الشيخ والمقدم والطلبة المتعلمين.

وعن قطعة شرح "روضة السلوان" المؤرخة عام 1211 هجرية الموافق لـ 1779 م، فقد ذكر العلامة الأستاذ المنوني بأن مؤلفها يسمي نفسه (أبا القاسم بن الهاشمي بن قاسم بن عثمان الشريف الغمراني، الفزكاري دارا ومنشئا)، وهي القطعة المستخرجة من شرح مؤلفها على روضة السلوان للفجيجي. (مخطوط بالمكتبة الملكية وتحمل رقم 506)

وأوردت الوثيقة أن المؤلف رتب القطعة المتحدث عنها في سبعة فصول وهي:

1 ـ الفصل الأول: في فضل الرماية

2 ـ الفصل الثاني: في صف المدفع الذي يعني به ما يسمى بالبندقية أو المكحلة

3 ـ الفصل الثالث: في طريقة صنع البارود

4 ـ الفصل الرابع: في صفة الشيخ الذي يعلم الرماية

5 ـ الفصل الخامس: في كيفية تعليم الرماية على الوجه الأكمل

6 ـ الفصل السادس: في حكم الاصطياد ببندقية الرصاص

7 ـ الفصل السابع: في كيفية اصطياد الحيوان البري

المنوني يؤكد على الصورة المشرفة لنشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي

في سياق نقده للقطعة المذكورة أكد العلامة محمد المنوني بالقول: "...فإن هذه القطعة تكررت فيها التعبيرات العامية واللحن، وإذا اغتفرت هذه الظاهرة للمؤلف، فإن النص يقدم صورة مشرفة لنشاط الرماية الشعبية بالجنوب المغربي".

إن المؤلف حسب الوثيقة التي بين أيدينا، يعرف في الفصل الثاني بـ "الرماة بصفة البندقية التي تصلح للرماية، ويذكر طريقة فحصها في جعابها وزنادها... ويستعرض ثمانية أسماء لثمانية أنواع من البنادق المغربية الصنع. ويلاحظ أن للشعراء الشعبيين فيها قصائد ملحون في تفضيل بعضها على بعض، كما يسجل أن صنعة المغاربة في الزناد أفضل من صنعة الأوربيين، وأن أحسنه ما كان من عمل مدينتي فاس ومكناس".

وخصص الفصل الثالث لـ "عرض طريقة صنع البارود من أول مرحلة إلى آخرها، حسبما أخذها (المؤلف) عن أشياخ بلاد أحمر وغيرهم من أهل الفن، وهو يذكر أنواع ملح البارود المستخرجة من الأرض المغربية وطريقة تقطيرها وطبخها وصفة سحق البارود".

أما الفصل الرابع فالمؤلف يذكر فيه "صفة الشيخ الذي يعلم الرماية، ويقدم أسماء الرماة الأولين بالجنوب المغربي، كما يأتي بلائحة للأشياخ الذين أدركهم ببلاد أحمر وحوزها. دون أن يغفل ذكر سيرة البعض منهم، ثم يتحدث عن انتشار الرماية من هذه الجهة إلى بلاد الغرب وبني حسن".

وخصص (المؤلف) الفصل الخامس من القطعة المذكورة للتوسع فيه "في التعريف بطريقة تعليم الرماية للراغبين فيها من البداية حتى النهاية، حسب المنهاج الذي تلقاه عن الأشياخ ببلاد أحمر". في حين أن الفصل السادس فقد ضمنه كيفية صنع الرصاص المكور، ثم المنهال الذي يخصه العرف المغربي باسم الرّش".

ويستنتج العلامة الأستاذ المرحوم محمد المنوني أهمية القطعة موضوع (المؤلف) والتي قدمها وحققها للتعريف بظاهرة الرماية الشعبية في الجنوب المغربي، وخصوصا في الطريقة التي كان الرماة يسيرون عليها في التعرف على جودة السلاح المعني بالأمر، وأيضا في مباشرتهم صنع البارود والرصاص والرش، وإنجازه (صناعته) بأيديهم في مصانع فردية بسيطة، وأخيرا في المنهاج الذي يتبعونه في تلقين الرماية للراغبين في تعليمها. حيث اعتبر أن المعلومات الواردة في نفس قطعة (المؤلف)، كلها معلومات قيمة ونادرة.

(يتبع)