Tuesday 2 September 2025
فن وثقافة

الدكتور أنور الشرقاوي: سيد القانون جاوز القرن

 
 
الدكتور أنور الشرقاوي: سيد القانون جاوز القرن نم هادئًا، أيها الفنّان… أيها العازف الفذّ، سيّد القانون: صالح الشرقي
الحب العائلي، الإيمان بالله، وتقدّم الطب هي مفاتيح هذا الحكاية 
 
يلعب الزمن، أحيانًا،  مثل عازف بيانو شارد الذهن: يضع أنامله على مفاتيح الحياة، يتردّد، يعيد، يرتجل، ثم يعود إلى نغمةٍ تبدو أبدية.
في سبتمبر 2011، كان الشيخ قد بلغ قمّة من قمم مسيرته: إصدار كتاب فاخر من أربعمئة صفحة، بمثابة ضريح توثيقي، أقيم تمجيدًا للموسيقى المغربية.
وفي صفحاته تردّدت أصداء قرون من الألحان، وكأن ذلك لا يكفي، أُرفق المؤلف بقرصين موسيقيين، كشمعتين مضاءتين أمام آلته الحبيبة: القانون.
ذلك الخشب المشدود بالأوتار لم يكن مجرّد آلة موسيقية. 
لقد كان مرآته، سرّه، دفتر مذكّراته.
كلّ نغمةٍ منه كانت صدى وطن، همس مآذن، عبق أسواق، وأنين بحر بعيد.
بلغ الثامنة والثمانين، وعينه لما تزل حادّة، ويده رشيقة، وابتسامة السنين لم تُطفئ وهجها.
كأنّه شخصية خرجت من فيلمٍ لوودي آلن فيه شيء من السخرية الحكيمة.
لكن الحياة ــ بخبثها المألوف ــ نصبَت له فخًّا تافهًا.
شابٌ مسرعٌ، كما كلّ شباب الأرض حين يقودون سياراتهم، صدمه.
حادث عابر، مشهد شارع، يكاد يبدو سخيفًا.
التشخيص: كسر في عظم الفخذ.
وفي مثل هذا العمر، الكسر حكمٌ بالموت.
فالمراجع الطبية القديمة و المتقادمة ، كانت قد كتبت الخاتمة سلفًا: موت قريب لا محالة.
غير أنّ الحسابات غفلت عن معزوفة أخرى: نُسَخ جديدة متقدمة من الطب، أيادي الأطباء الساهرة، حبّ لا يلين من الأهل، وإيمانٌ عميق بالله كان أوركستراه السرّي.
وهكذا، على غير ما توقّع الجميع، 
استمر اللحن.
ببطء، كما في "بوليرو" رافيل.
نغمة خافتة أولاً، هشّة، معلّقة في الهواء. ثم ثانية، فثالثة…
كلّ يوم، كلّ نَفَس، كان يضيف نغمة جديدة: لمسة حفيد، حرص أولاده ضحكة جار، دعاء مسائي.
الإيقاع يتسارع، يتعالى، كما في التصعيد الأوركسترالي لرافيل.
أشهر تحوّلت إلى سنوات، وسنوات انقلبت عقدًا وأكثر.
تساقطت التوقّعات الطبية واحدًة تلو الآخرى، مثل أحجار دومينو كذّبتها الحياة.
وها نحن في عام 2025. الشيخ يحتفل بعيد ميلاده الثاني بعد المئة.
القانون ما زال إلى جواره، كحارسٍ أمين.
لم تعد أصابعه تجري فوق الأوتار كما من قبل، لكن كلّ نغمة يخرجها تبدو آتية من بعيد… بعيد جدًّا.
وإذا رأى الطب في حالته معجزة، وقرأتها العلوم شذوذًا، فإنّه لا يرى سوى منطق بسيط: فالحياة، مثل الموسيقى، لا تلتزم دائمًا بالنوطات المكتوبة.
إنّها في كثير من الاحيات تُرتَجَل.
نم هادئًا، أيها الفنّان… أيها العازف الفذّ، سيّد القانون: صالح الشرقي.