Sunday 7 September 2025
كتاب الرأي

نعيمة بنعبد العالي: عباس كيارستمي.. كونية النظرة وبطء العالم

نعيمة بنعبد العالي: عباس كيارستمي.. كونية النظرة وبطء العالم نعيمة بنعبد العالي

 

تصوير الانتظار كأنه صلاة صامتة

هذا النص رحلة في سينما عباس كيارستمي، شاعر الصورة ومصور الانتظار. من الغزل الفارسي إلى الهايكو الياباني، ومن التأمل الصوفي إلى الحوار مع السينما العالمية، يكشف كيارستمي كيف يصبح الصمت استعارة والفراغ فسحةً كونية، وكيف أن المعنى يسكن أحياناً في التفاصيل الهامسة.

لم يكن عباس كيارستمي مجرد مخرج سينمائي؛ بل كان شاعراً اختار الكاميرا أداةً لنَفَسه الداخلي. أفلامه، غالباً ما تكون خالية من الزينة والافتعال، تشبه أبياتاً هامسة على حافة الصمت. حركة عابرة، نَفَس ريح، طريق متعرج: هذه اللاشيئات تتحول إلى تأملات في الوجود.

يجمع عالمه بين آفاق متباعدة: الاستعارة الموحية عند حافظ، الرقصة الباطنية عند الرومي، واللمحة الخاطفة في هايكو ياباني. كما عند حافظ، الجوهر يُلمَّح ولا يُصرَّح. وكما عند الرومي، كل خطوة في الطريق تصبح سفراً داخلياً. وكما عند باشو، يكفي تفصيل ضئيل — كلب يعبر، طائر يحلق — ليقول اللامحدود.

كيارستمي يصوّر كما يُكتب بيت قصير: قلة كلمات، قلة صور، لكن عالماً بأسره يُفتح. إن سينماه فضاء عبور بين الشرق واليابان، بين التصوف والاقتصاد الجمالي، بين بطء الانتظار ولمعة اللحظة العابرة.

كيارستمي وروح الهايكو: السينما كالتقاط للحظة

» بركة قديمة

ضفدعة تقفز،

رنين الماء. «

) باشو(

يمكن وصف سينما كيارستمي بأنها فن اللحظة، فن السكنى في الزمن في عُريه الهش. ففي فيلم Five (2003) مثلاً، يضع الكاميرا أمام البحر ويتركها ساكنة. لا شيء يحدث، ومع ذلك كل شيء يقع: كلب يعبر الكادر، بط يطفو على الماء، القمر ينعكس في الموج. هذا «اللاشيء» يصبح مركز العالم.

وفي الريح ستحملنا (1999)، يبدو انتظار المهندس لحدث الدفن بلا نهاية. لكن هذه المدة الممتدة تسكنها التفاصيل: قطيع يمر، غبار في الهواء، محادثة متقطعة. هنا يُمدَّد الزمن مثل بيت هايكو يُعاد تلاوته لالتقاط رنينه الخفي.

سر كيارستمي يكمن في جمالية التبسيط: قلة كلمات، قلة أفعال، لكن فسحة واسعة تُترك للإدراك. حيث يسعى غيره لملء الشاشة، يفضّل هو تفريغها حتى يصير الصمت لغة.

صدى حافظ: الاستعارة وما لا يُقال

في مرآة الخمر تنكشف الأسرار،


لكن من يجرؤ أن ينظر حتى النهاية؟«

( حافظ(

إذا كانت بساطة كيارستمي تجعله قريباً من الهايكو، فإن جذوره تمتد عميقاً في التقاليد الفارسية. مثل حافظ، يمارس فن الحجب والكشف، حيث لا تُمنح الحقيقة مباشرة، بل تُترك للخيال كي يكتشفها.

في طعم الكرز (1997)، يتنقل رجل عبر تلال طهران باحثاً عمّن يدفنه بعد انتحاره. لا نرى شيئاً من الفعل الأخير: لا موت ولا حركة نهائية. ما يبقى هو الاستعارة: الطريق المتعرج مرآة للتيه الداخلي، الحفرة في الأرض قبر وغموض في آن. النهاية تتركنا أمام صورة مفتوحة، مثل غزل حافظ حيث الجوهر يُترك لخيال القارئ.

وفي والحياة تستمر (1992)، لا تتوقف الكاميرا عند الخراب العظيم بعد الزلزال، بل عند الإشارات الصغيرة: طفل يلعب بالكرة، امرأة تبتسم على الطريق. كما عند حافظ، الأمل يتسرّب وسط الكارثة، واللحظة العادية تصبح استعارة للحياة التي تُقاوم.

الحركة والبحث الداخلي: من الرومي إلى كيارستمي، مع صدى شاهين

» لا تبقَ ساكناً: تقدّم،

فالطريق يُخلق بالمشي.

(الرومي)

عند كيارستمي، السفر ليس انتقالاً جغرافياً فقط؛ بل هو تحوّل باطني. في "والحياة تستمر"، كل منعطف طريق يُصبح كشفاً، كل وجه يُصادَف شذرة حقيقة. العالم الخارجي مرآة لرحلة داخلية.

وهنا يبرز التباين مع يوسف شاهين. إذا كان كيارستمي يختار الصمت والبساطة، فإن شاهين يختار البهاء والصخب والموسيقى. في" المصير"، الرحلة مواجهة صاخبة دفاعاً عن العقل ضد الظلامية. في "إسكندرية كمان وكمان"، الهوية تُصوَّر عبر تناقضات البحر المتوسط وألوانه المتعددة.

ومع ذلك، يلتقي الاثنان في غاية واحدة: الفن طريق إلى الذات. صمت كيارستمي وصخب شاهين ليسا إلا وجهين لبحث واحد عن الإنسان.

كونية كيارستمي: بين الشرق واليابان، بين الصمت والتوهّج

»حين نغلق أعيننا، نرى بوضوح أكبر. «

(عباس كيارستمي)

ما يدهش في سينما كيارستمي هو قدرتها على تجاوز الحدود. أفلامه، وإن كانت متجذرة في التراب الإيراني، تخاطب المشاهد في طوكيو وباريس والقاهرة على حد سواء.

هنا يلتقي سراً مع ياسوجيرو أوزو في اليابان الذي صوّر بطء الأيام وصمت المائدة، ومع تيرينس ماليك في أمريكا الذي ترك للريح والضوء سلطة الكلام. وعلى النقيض، يتضح الفرق أكثر أمام سينما هوليوود حيث ستيفن سبيلبرغ يملأ الشاشة بالمؤثرات والمغامرات. فبينما يملأ الآخرون الفراغ ليأسروا المشاهد، يفرغه كيارستمي ليفسح مجالاً للتأمل.

 

إن سينما كيارستمي، التي تلتقط الانتظار والصمت وظلال الحركات، تلتحق بخفة الهايكو، وبغموض حافظ، وبرقصة الرومي. ( فرادته) تتضح بمقارنة مع شاهين، وتتردد مع أوزو وماليك، وتزداد سطوعاً أمام هوليوود المبهَرة بالفرجة.

كيارستمي، شاعر السينما، اخترع لغة لا تخص إلا هو. يصوّر كما يكتب حافظ، كما يرقص الرومي، كما يتأمل باشو. أفلامه هايكوهات فارسية، غزليات من ضوء، وتأملات مهدَاة لكل واحد منا. وفي عالم مثقل بالصور والضجيج، يذكّرنا أن الجوهر يُقال أحياناً في نَفَس، في صمت، في رفرفة جناح.