الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة2)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب  (الحلقة2) منظر لأحد شوارع لندن
نوجد الآن في محطة فولكستون . سائق القطار يطلق عبر مكبر صوت آخر نداء قبل الإقلاع . يصدح بصوت قوي يحث المسافرين على الصعود إلى المقطورات . حشود بشرية محملة بالأمتعة مازالت تتدفق اتجاه القطار قادمة من المرفأ . المسافرون يهرولون ، حملت حقيبتي المهترئة واستقلت مقطورة من الدرجة الثانية . أخذت مقعدي بجوار نافذة عريضة، أرمي ببصري نحو حقول وتلال خضراء مطلة على ريف إنجليزي أخاذ ، شرعت في استكشاف إنجلترا من داخل القطار.
يجلس قبالتي شاب عشريني أنيق يحمل سحنة عربية داكنة . يحدق النظر في حقيبتي ، كان يختلس النظرات إلي بين حين وآخر  ، ومن دون أي مقدمة سألته :
- هل أنت عربي ؟ .
تبسم الشاب قائلا :
- كثير من الناس يسألونني نفس السؤال ، أنا مزيج أوروبي إفريقي ، أبي من نيجيريا ووالدتي إنجليزية .
- مرحبا بك ، انا من المغرب . هل سمعت ببلدي ؟ .
- طبعا سمعت بالمغرب ، لعبنا ضدكم في المونديال منذ ثلاثة أسابيع ، كدتم تهزموننا .
كان مونديال 86 للتو أنهى دورته الثالثة عشر ، ولا تزال أحداثه ساخنة وتداعياته تخيم على الصحافة العالمية .
- سعدت بلقائك ، لقد شدني اللاعب تيمومي بتمريراته الساحرة !
- وانا شدني اللاعب غاري لينكر بخفته ومراوغاته الجميلة ، لاعب رائع مميز !
- هل انت سائح ؟ .
- نعم ، أنا سائح أزور بريطانيا لأول مرة ، وسأبحث عن عمل في آن واحد لأسدد به تكاليف رحلتي .
- بعد قليل سوف يمر القطار عبر مدينة كنتربري السياحية التي تضم جامعة كينت وكاتدرائية تاريخية ، حيث يتخذ منها رئيس الأساقفة مقرا لرئيس الكنيسة الأنجليكانية بإنجلترا .
- شكرا لك سيدي ، عندما أشتغل وأجني بعض المال سأقوم بزيارة بيتي شارلي شابلن وشكسبير بلندن .
- لكن شكسبير ليس لندنيا فمولده كان بمدينة  ستراتفورد في وسط إنجلترا !
- آه ، لم اكن اعلم ذلك ، إذن سأقوم بزيارة استوديو "أبي رود" لفرقة البيتلز !
   ظل القطار يشق طريقه نحو عاصمة الضباب بسرعة متوسطة لمدة ساعة ونصف إلى أن وصلنا محطة "شارين كروس " .
نزلنا من القطار ، ودعت الشاب النيجيري وشكرته على دردشته العابرة ، كما تمنى لي هو أيضا إقامة طيبة بلندن .
 ألفيت المحطة ضخمة مترامية الأطراف ، تضج بالحركة ، صخب وأصوات عالية تجلجل في الفضاء الشاسع . معظم الناس في عجلة من أمرهم ، يهرولون في كل الاتجاهات وكأنه يوم الفزع ، نساء شقراوات يرتدين أحذية بكعب عال يمرن أمامي مسرعات ، أحذيتهن تحدث طقطقات تزعج مسمعي . روائح عطور فرنسية تعبق من ملابسهن فتتحول إلى مزيج كوكتيل عطور تستطيبه نفسي ، رجال يرتدون معاطف وسترات أنيقة ، يلتهمون ساندويشات في رمشة عين ، يركضون وراء المترو وكأنهم مجانين يسابقون الزمن ، مشهد لم أتعود عليه من قبل ، وأنا الذي سبق لي أن زرت مدينتي مالقا وأليكانطي الإسبانيتين ، لكن لم أشاهد تدافعا وجنونا مماثلا . إنها لندن المدينة العملاقة التي لا تنام ، الحياة فيها مبرمجة وفق إيقاع سريع ، عاصمة المال والرأسمالية المتوحشة !
داهمني دوار من هذا الهول، انتحيت إلى إحدى أطراف المحطة لألتقط أنفاسي من جديد . صرت مشدوها أتأمل هذا المشهد الغريب عني . توجهت نحو مكتب الإرشادات ، سلمت العنوان لموظفة جميلة شقراء ، أشارت لي بالتوقف عند محطة مترو "غولدرز غرين" .
 كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء ، ساعة الذروة ، تسلقت المترو بعد تدافع شديد ، ووقفت وسط حشد من الركاب أكاد أختنق من فرط التزاحم . يقف الركاب متلاصقين متلاحمين وكأنهم في يوم الحشر . هذا يتصفح جريدته ، ذاك منغمس في قراءة  كتاب ، الآخر ينصت إلى موسيقى واضعا سماعات على أذنيه ، وهناك من يتفرس عيون عشيقته ويقبلها بين الحين والآخر ، فيما أنا كنت أراقب المشهد من وراء عمود حديدي يتوسط المقطورة .
خرجت من القطار منهكا أجر حقيبتي ، أتحسس جيبي وأطراف جسدي لعلي أجد كدمات تعتري جسمي جراء التدافع اللعين . حدثت نفسي وقلت : هذه ضريبة لا مناص من دفعها من رغب في العيش في مدينة مجنونة ، هذا هو عالم السرعة والصواريخ الذي كنا نقرأ عنه في الكتب والمجلات . بعدها توجهت نحو مخدع هاتف أحمر وقمت بالاتصال  بمنزل مضيفي عبدالسلام .
- ألو ، ألو !
- ردت علي ارحيمو : من معي ؟ !
- أنا عبد الصمد ابن الزهرة أخت الحاجة .
- أهلا و سهلا ، الحمدلله على سلامتك ، أين توجد الآن ؟ !
- أنا واقف قرب مدخل مترو "غولدرز غرين" !
- امكث مكانك و لا تتحرك ، فسوف أرسل لك إبني منعم حالا !
- شكرا كثيرا للا ارحيمو !
بدأ الطقس يبرد قليلا ، رفعت عيوني نحو السماء وقد اكتسحتها الغيوم . بعد نصف ساعة وصل منعم ، شاب يافع ذو بشرة قمحية لا يتجاوز عمره ستة عشر سنة ، شعره مجعد وتبدو عليه ملامح الخفة والذكاء .
 استقلنا حافلة حمراء بطابقين . جلسنا في الطابق العلوي ، أطوف ببصري نحو شوارع جميلة تضج بحركة المرور ، بنايات بمعمار إنجليزي باهر ، أبراج شاهقة  تشبه ناطحات السحاب ، قطع الباص حوالي خمسة أميال خلال وقت وجيز ، ثم حط بنا قرب مترو "أرنوس غروف" ، ترجلنا من الحافلة ومشينا نحو البيت . شقة متواضعة في الطابق الثاني . تقدمت بالتحية على السيد عبدالسلام ، علت محياه ابتسامة وديعة ، رجل بدين في بداية الأربعين من عمره ، حليق الذقن ، عيناه واسعتان ، يتحدث بلكنة جبلية خفيفة ، شعره مجعد وأنف ضخم يتوسط وجهه المدور . بدا منشرحا معي . استقبلتني للا ارحيمو بوجه طليق ، امرأة في منتصف الثلاثينات من عمرها ، ممشوقة القوام ، بعينين متقدتين وأنف كحبة الكرز ، بدت في غاية الحسن واللباقة . صوب إلي إبنهما أنور نظرات يشوبها بعض الريبة ، ظل صامتا ، لا يتحدث العربية جيدا ، انتابني إحساس كما لو كنت ضيفا سقط عليهم بمظلة من السماء . جلسنا في الصالون وانهمكنا في حديث مطول عن أحوال المغرب، سألوني عن تفاصيل رحلتي الطويلة وعن أحوال الحاج وخالتي فاطنة ، قلت لهم الجميع يقرأونكم المحبة والسلام . حكيت لهم عن قصتي مع الضابط ستيف وعن استجوابه لي عند الحدود . -أردفت للا ارحيمو قائلة : أنت محظوظ ، لحظة اتصال الشرطة عبر الهاتف وجدتنا داخل البيت .
 - قالت : مبروك عليك يا ولدي ، مرحبا بك وطاب مقامك معنا .
- أجبتها : شكرا لك سيدتي أنا ممنون لكم جميعا وأشكركم على معروفكم وحسن ضيافتكم . أشعر بارتياح شديد وتغمرني فرحة عارمة بتواجدي معكم ، لقد تكللت رحلة أحلامي بنجاح وتوفيق من الله .
 ردت علي المرأة :
- هذا واجب وسوف نتولى مساعدتك . نزلت علي عباراتها غبطة وسرورا ، امرأة لطيفة وحنونة .
علمت بعد ذلك أن ارحيمو وزوجها ينحدران من بلدة بوهاني بضواحي العرائش ، امرأة عصامية هاجرت إلى لندن بداية السبعينيات ، تعلمت القراءة والكتابة ، وتشتغل بإحدى مستشفيات شمال لندن .
بعدئذ ، نادت للا ارحيمو علينا للمطبخ لتناول وجبة العشاء، اقتعدت مقعدي حول مائدة زجاجية فخمة تعلوها أطباق سيراميك بيضاء، مأكولات طازجة متنوعة أعدت على شرف ضيفهم الجديد . أحسست بجو مترع بالكرم والدفئ العائلي .
 حينما فرغنا من الطعام ، قرأت ارحيمو في وجهي ملامح العياء ، داهمني الإرهاق كثيرا ، فأشارت إلى إبنها منعم أن يصحبني معه لتقاسم غرفة نومه وقد استبد بي تعب قاتل . أويت إلى فراشي وخلدت لنوم عميق وقد ارتسمت في ذهني مشاهد وخيالات ، طالما راودتني تجاه مدينة أحلامي ..