عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (الحلقة2)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب  (الحلقة2) منظر لأحد شوارع لندن
نوجد الآن في محطة فولكستون . سائق القطار يطلق عبر مكبر صوت آخر نداء قبل الإقلاع . يصدح بصوت قوي يحث المسافرين على الصعود إلى المقطورات . حشود بشرية محملة بالأمتعة مازالت تتدفق اتجاه القطار قادمة من المرفأ . المسافرون يهرولون ، حملت حقيبتي المهترئة واستقلت مقطورة من الدرجة الثانية . أخذت مقعدي بجوار نافذة عريضة، أرمي ببصري نحو حقول وتلال خضراء مطلة على ريف إنجليزي أخاذ ، شرعت في استكشاف إنجلترا من داخل القطار.
يجلس قبالتي شاب عشريني أنيق يحمل سحنة عربية داكنة . يحدق النظر في حقيبتي ، كان يختلس النظرات إلي بين حين وآخر  ، ومن دون أي مقدمة سألته :
- هل أنت عربي ؟ .
تبسم الشاب قائلا :
- كثير من الناس يسألونني نفس السؤال ، أنا مزيج أوروبي إفريقي ، أبي من نيجيريا ووالدتي إنجليزية .
- مرحبا بك ، انا من المغرب . هل سمعت ببلدي ؟ .
- طبعا سمعت بالمغرب ، لعبنا ضدكم في المونديال منذ ثلاثة أسابيع ، كدتم تهزموننا .
كان مونديال 86 للتو أنهى دورته الثالثة عشر ، ولا تزال أحداثه ساخنة وتداعياته تخيم على الصحافة العالمية .
- سعدت بلقائك ، لقد شدني اللاعب تيمومي بتمريراته الساحرة !
- وانا شدني اللاعب غاري لينكر بخفته ومراوغاته الجميلة ، لاعب رائع مميز !
- هل انت سائح ؟ .
- نعم ، أنا سائح أزور بريطانيا لأول مرة ، وسأبحث عن عمل في آن واحد لأسدد به تكاليف رحلتي .
- بعد قليل سوف يمر القطار عبر مدينة كنتربري السياحية التي تضم جامعة كينت وكاتدرائية تاريخية ، حيث يتخذ منها رئيس الأساقفة مقرا لرئيس الكنيسة الأنجليكانية بإنجلترا .
- شكرا لك سيدي ، عندما أشتغل وأجني بعض المال سأقوم بزيارة بيتي شارلي شابلن وشكسبير بلندن .
- لكن شكسبير ليس لندنيا فمولده كان بمدينة  ستراتفورد في وسط إنجلترا !
- آه ، لم اكن اعلم ذلك ، إذن سأقوم بزيارة استوديو "أبي رود" لفرقة البيتلز !
   ظل القطار يشق طريقه نحو عاصمة الضباب بسرعة متوسطة لمدة ساعة ونصف إلى أن وصلنا محطة "شارين كروس " .
نزلنا من القطار ، ودعت الشاب النيجيري وشكرته على دردشته العابرة ، كما تمنى لي هو أيضا إقامة طيبة بلندن .
 ألفيت المحطة ضخمة مترامية الأطراف ، تضج بالحركة ، صخب وأصوات عالية تجلجل في الفضاء الشاسع . معظم الناس في عجلة من أمرهم ، يهرولون في كل الاتجاهات وكأنه يوم الفزع ، نساء شقراوات يرتدين أحذية بكعب عال يمرن أمامي مسرعات ، أحذيتهن تحدث طقطقات تزعج مسمعي . روائح عطور فرنسية تعبق من ملابسهن فتتحول إلى مزيج كوكتيل عطور تستطيبه نفسي ، رجال يرتدون معاطف وسترات أنيقة ، يلتهمون ساندويشات في رمشة عين ، يركضون وراء المترو وكأنهم مجانين يسابقون الزمن ، مشهد لم أتعود عليه من قبل ، وأنا الذي سبق لي أن زرت مدينتي مالقا وأليكانطي الإسبانيتين ، لكن لم أشاهد تدافعا وجنونا مماثلا . إنها لندن المدينة العملاقة التي لا تنام ، الحياة فيها مبرمجة وفق إيقاع سريع ، عاصمة المال والرأسمالية المتوحشة !
داهمني دوار من هذا الهول، انتحيت إلى إحدى أطراف المحطة لألتقط أنفاسي من جديد . صرت مشدوها أتأمل هذا المشهد الغريب عني . توجهت نحو مكتب الإرشادات ، سلمت العنوان لموظفة جميلة شقراء ، أشارت لي بالتوقف عند محطة مترو "غولدرز غرين" .
 كانت الساعة تشير إلى السادسة مساء ، ساعة الذروة ، تسلقت المترو بعد تدافع شديد ، ووقفت وسط حشد من الركاب أكاد أختنق من فرط التزاحم . يقف الركاب متلاصقين متلاحمين وكأنهم في يوم الحشر . هذا يتصفح جريدته ، ذاك منغمس في قراءة  كتاب ، الآخر ينصت إلى موسيقى واضعا سماعات على أذنيه ، وهناك من يتفرس عيون عشيقته ويقبلها بين الحين والآخر ، فيما أنا كنت أراقب المشهد من وراء عمود حديدي يتوسط المقطورة .
خرجت من القطار منهكا أجر حقيبتي ، أتحسس جيبي وأطراف جسدي لعلي أجد كدمات تعتري جسمي جراء التدافع اللعين . حدثت نفسي وقلت : هذه ضريبة لا مناص من دفعها من رغب في العيش في مدينة مجنونة ، هذا هو عالم السرعة والصواريخ الذي كنا نقرأ عنه في الكتب والمجلات . بعدها توجهت نحو مخدع هاتف أحمر وقمت بالاتصال  بمنزل مضيفي عبدالسلام .
- ألو ، ألو !
- ردت علي ارحيمو : من معي ؟ !
- أنا عبد الصمد ابن الزهرة أخت الحاجة .
- أهلا و سهلا ، الحمدلله على سلامتك ، أين توجد الآن ؟ !
- أنا واقف قرب مدخل مترو "غولدرز غرين" !
- امكث مكانك و لا تتحرك ، فسوف أرسل لك إبني منعم حالا !
- شكرا كثيرا للا ارحيمو !
بدأ الطقس يبرد قليلا ، رفعت عيوني نحو السماء وقد اكتسحتها الغيوم . بعد نصف ساعة وصل منعم ، شاب يافع ذو بشرة قمحية لا يتجاوز عمره ستة عشر سنة ، شعره مجعد وتبدو عليه ملامح الخفة والذكاء .
 استقلنا حافلة حمراء بطابقين . جلسنا في الطابق العلوي ، أطوف ببصري نحو شوارع جميلة تضج بحركة المرور ، بنايات بمعمار إنجليزي باهر ، أبراج شاهقة  تشبه ناطحات السحاب ، قطع الباص حوالي خمسة أميال خلال وقت وجيز ، ثم حط بنا قرب مترو "أرنوس غروف" ، ترجلنا من الحافلة ومشينا نحو البيت . شقة متواضعة في الطابق الثاني . تقدمت بالتحية على السيد عبدالسلام ، علت محياه ابتسامة وديعة ، رجل بدين في بداية الأربعين من عمره ، حليق الذقن ، عيناه واسعتان ، يتحدث بلكنة جبلية خفيفة ، شعره مجعد وأنف ضخم يتوسط وجهه المدور . بدا منشرحا معي . استقبلتني للا ارحيمو بوجه طليق ، امرأة في منتصف الثلاثينات من عمرها ، ممشوقة القوام ، بعينين متقدتين وأنف كحبة الكرز ، بدت في غاية الحسن واللباقة . صوب إلي إبنهما أنور نظرات يشوبها بعض الريبة ، ظل صامتا ، لا يتحدث العربية جيدا ، انتابني إحساس كما لو كنت ضيفا سقط عليهم بمظلة من السماء . جلسنا في الصالون وانهمكنا في حديث مطول عن أحوال المغرب، سألوني عن تفاصيل رحلتي الطويلة وعن أحوال الحاج وخالتي فاطنة ، قلت لهم الجميع يقرأونكم المحبة والسلام . حكيت لهم عن قصتي مع الضابط ستيف وعن استجوابه لي عند الحدود . -أردفت للا ارحيمو قائلة : أنت محظوظ ، لحظة اتصال الشرطة عبر الهاتف وجدتنا داخل البيت .
 - قالت : مبروك عليك يا ولدي ، مرحبا بك وطاب مقامك معنا .
- أجبتها : شكرا لك سيدتي أنا ممنون لكم جميعا وأشكركم على معروفكم وحسن ضيافتكم . أشعر بارتياح شديد وتغمرني فرحة عارمة بتواجدي معكم ، لقد تكللت رحلة أحلامي بنجاح وتوفيق من الله .
 ردت علي المرأة :
- هذا واجب وسوف نتولى مساعدتك . نزلت علي عباراتها غبطة وسرورا ، امرأة لطيفة وحنونة .
علمت بعد ذلك أن ارحيمو وزوجها ينحدران من بلدة بوهاني بضواحي العرائش ، امرأة عصامية هاجرت إلى لندن بداية السبعينيات ، تعلمت القراءة والكتابة ، وتشتغل بإحدى مستشفيات شمال لندن .
بعدئذ ، نادت للا ارحيمو علينا للمطبخ لتناول وجبة العشاء، اقتعدت مقعدي حول مائدة زجاجية فخمة تعلوها أطباق سيراميك بيضاء، مأكولات طازجة متنوعة أعدت على شرف ضيفهم الجديد . أحسست بجو مترع بالكرم والدفئ العائلي .
 حينما فرغنا من الطعام ، قرأت ارحيمو في وجهي ملامح العياء ، داهمني الإرهاق كثيرا ، فأشارت إلى إبنها منعم أن يصحبني معه لتقاسم غرفة نومه وقد استبد بي تعب قاتل . أويت إلى فراشي وخلدت لنوم عميق وقد ارتسمت في ذهني مشاهد وخيالات ، طالما راودتني تجاه مدينة أحلامي ..