الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

دراسة في الإنتاج الفكري للراحل وقيدي من وجهة نظر السوسيولوجي عمر إيبوركي

دراسة في الإنتاج الفكري للراحل وقيدي من وجهة نظر السوسيولوجي عمر إيبوركي الأساتذة: محمد المصباحي، وعبد الكريم بلحاج، وعمر الإبوركي، والراحل محمد وقيدي(يسارا)

فقدت الساحة الفكرية مفكرا وفيلسوفا قضى حياته في البحث والتدريس، وهو ينتمي إلى مجموعة من الباحثين المغاربة الذين أنعشوا الفكر الفلسفي والتنويري منذ ستينيات القرن الماضي. ويعتبر الأستاذ محمد وقيدي رائدا في البحث الابستمولوجي، وقد ترك تراثا معرفيا ضخما في الفلسفة والعلوم الإنسانية والابستومولوجيا.

  • قام مركز الدراسات والأبحاث، عزيز بلال بالرباط بتكريمه يوم 23 ماي 2014 بتقديم دراسات حول إنتاجه الفكري المتعدد، و كانت مساهمات الباحثين متعددة في قراءة مؤلفات الأستاذ وقيدي: فلسفية (الأستاذ محمد المصباحي)، ومن وجهة علم النفس(ذ.عبد الكريم بلحاج)، وعلم الاجتماع (عمر الإبوركي).

تكريما للراحل الأستاذ محمد وقيدي، تنشر جريدة "أنفاس بريس" مداخلة الأستاذ عمر الإبوركي تعريفا ببعض جوانب فكره، وما خلفه من كتابات ستخلد اسمه رحمه الله.

 

"لقد جمعتني به علاقة صداقة وفكر، واستمر التواصل الإنساني والفكري بيننا إلى حدود فترة الحجر الصحي، وكانت آخر زيارة له، بحيث أهداني آخر مؤلفاته: (محمد عزيز لحبابي، الإنسان والفيلسوف) وكان حديثنا حول سيرورة الفكر المغربي ورواده، وعلاقة ذلك بتحولات المجتمع المغربي، لاسيما أن الأستاذ وقيدي كان قد ذهب لفرنسا لإنجاز أطروحة في الفلسفة، ولكنه انفتح على العلوم الإنسانية، وله فيها مؤلفات قيمة تناولها من وجهة النقد الابستمولوجي".. عمر الإبوركي

العلوم الإنسانية من النقد إلى التأسيس

قراءة في مساهمة الأستاذ محمد وقيدي في النقد الابستمولوجي للعلوم الإنسانية.

إن المساهمات العلمية للأستاذ محمد وقيدي لها قيمتها العلمية والمنهجية، لأنه برح الدراسات الفلسفية في فترة ما، وانتقل إلى مجال العلوم الإنسانية و تناول بالدرس والتمحيص قضايا علوم الإنسان، و لم يأت إليها سائحا متفرجا، بل جاء مسلحا بأدوات النقد المنهجي والابستمولوجي، ليتناول بمنهجية المتفحص الدقيق الإشكاليات المتعددة في مجالات العلوم الإنسانية، والعوائق الابستمولوجية أمام تأسيس مفاهيم ونظريات تعالج قضايا المجتمع. وقد ركز في نقده الابستمولوجي على الأبحاث السوسيولوجية والتاريخية التي اهتمت بالمجتمع المغربي، والتي واكبها خلال وبعد المرحلة الاستعمارية.

  • انخرط من خلال مؤلفاته في مناقشة تخصصين أساسيين هما: علم الاجتماع، وعلم التاريخ. وتعتبر هذه المداخلة المتواضعة محاولة لتلمس بعض القضايا التي تناولها من خلال كتابيه: العلوم الإنسانية والإيديولوجيا (دار الطليعة، بيروت،1983)، وكتابة التاريخ الوطني (دار الأمان، الرباط، 1990). ففي مؤلفه الأول يتساءل عن ماهية العلوم الإنسانية، والمكانة التي تحتلها في تصنيف العلوم، وعن علاقتها بباقي العلوم؟ كما فصل في نشأة هذه العلوم، وعلاقتها بالإيديولوجيا، وشكل ذلك مدخلا للاهتمام بمشكلاتها في صورتها الأكثر واقعية. وفي كتابه الثاني تناول المعرفة التاريخية المنجزة في الفترة الاستعمارية، وأبرز خلفياتها الإيديولوجية، وطبيعة العلاقة بين الوقائع والنظرية، وكيف أن المفاهيم المستخدمة في التحليل ذات طبيعة أيديولوجية. .
  • اجتهاد الأستاذ محمد وقيدي لمسائلة المفاهيم الباشلارية (نسبة إلى غاستون باشلار)، وقياس مدى أجرأتها في مجال العلوم الإنسانية، أي في المجال الذي لم يفكر فيه باشلار نفسه. وانتقد بعض المحاولات الأخرى التي قام بها باحثون تطبيقا للتصور الباشلاري: ( بيير بورديو: مهنة عالم الاجتماع- لويس، التوسير: في فهم نشأة المادية التاريخية). ذلك أن النجاح لا يتحقق بتطبيق المفاهيم، بل بالموقف النقدي لأسس تلك المفاهيم بدل الوقوع تحت تأثيرها، من هنا لابد من المضي عكس التحليل الباشلاري خاصة في مجال العلوم الإنسانية التي تتميز بالارتباط الوثيق مع شروطها التاريخية ،والبحث في العلاقة بين هذه العلوم والإيديولوجيا.

دعا الابستمولوجي محمد وقيدي إلى التمييز في العلوم الإنسانية بين العوائق والقطيعة، ولمن الأولوية في تاريخ المعرفة العلمية في المجال الإنساني؟ فإذا كانت العلوم الفيزيائية حققت القطيعة مع المعرفة السابقة، ففي العلوم الإنسانية يهيمن التداخل بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية. وحاول تدقيق المفاهيم الابستمولوجية وهو يسعى إلى تطبيقها على العلوم الإنسانية، انطلاقا من أبحاث في مجال التاريخ والسوسيولوجيا. هكذا استنتج أن هذه الأخيرة لا تنصاع لعقلانية العلوم الحقة، فعندما استعمل مفهوم العائق الابستمولوجي للتعبير عن المرحلة ما قبل علمية من تاريخ العلوم (الرياضيات ـ الفيزياء) ومفهوم القطيعة للدلالة عن مرحلة الثورة العلمية انطلاقا من القرن 19 م، فالعلوم الإنسانية لا تعرف نفس الدرجة من العقلانية ،وهنا تكمن صعوبة الحديث عن العوائق والقطيعة.

  • العلوم الطبيعية يشكل الرأي عائقا ابستومولوجيا ينبغي تجاوزه، وإذا كانت العلوم الزيائية حققت القطيعة مع المعرفة السابقة، ففي العلوم الإنسانية يهيمن ما سماه ذ. وقيدي عامل "الألفة" نظرا للتداخل بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية. ففي مجال علم الاجتماع يتسرب المحيط المجتمعي ومفاهيمه إلى التحليل العلمي وهذا يمثل (العائق الأول)، أما (العائق الثاني) فيتجسد عند صياغة النتائج على مستوى التعبير عندما تتداخل اللغة العلمية واللغة العامية. ولن يتجاوز عالم الاجتماع هذا العائق إلا بيقظة ابستمولوجية مستمرة، وصياغة مفاهيم علمية دقيقة يصوغ بها فرضياته، ويعبر بها عن النتائج التي توصل إليها. فالألفة التي تنشأ بين الباحث والمجال المجتمعي موضوع الدراسة تجعل اللغة العامة تنفذ إلى لغته العلمية.

بعد حديثه عن العوائق يتساءل وقيدي عن الكيفية التي تتحقق بها القطيعة الابستمولوجية في علم الاجتماع؟

فهو يعرض رأي الباحثين الذين يطرحون مجموعة من التقنيات وهي:

  • القياس الإحصائي الذي يجعل ملاحظة الظاهرة معقلنة ومنظمة.
  • التعريف المؤقت كمرشد للبحث العلمي تبدأ به دراسة الظاهرة الاجتماعية.
  • ممارسة النقد المنطقي والقاموسي للغة المستعملة لبلورة مفاهيم علمية وتطويرها.
  • هذه التقنيات غير كافية، بل لابد من وجود نظرية كضرورة ابستمولوجية و كإطار يزكي فعالية المنهج التجريبي. وهنا يضيف بأن العوائق لا ترتفع دفعة واحدة، لأن المعرفة الاجتماعية يتداخل فيها العلمي والسياسي، وحينها ينزلق القول العلمي إلى شرك القول السياسي، ويستجيب لأهدافه وغاياته الظرفية، ويحول السياسي دون قيام معرفة علمية موضوعية.
  • كان مؤلفو كتاب "مهنة عالم الاجتماع" قد أبرزوا المكبوت العقلي في مجال علم الاجتماع الذي يجعل اللغة العامة تطفو على سطح المعرفة العلمية، وحاولوا أن يبينوا الوسائل الكابحة لهذا المكبوت حتى لا يعيق معرفة الظواهر الإنسانية معرفة موضوعية، فقد وقفوا عند التحليل دون نقده وبيان نقائصه. وتجاوزا لهذا النقص كشف وقيدي عن عوائق ابستمولوجية أخرى تترتب عن العلاقة بين علم الاجتماع وبعض المعارف الأخرى كالإيديولوجيا لوجود نظريات مختلفة لم تسمح بتحقيق القطيعة الابستمولوجية بين المعرفة الاجتماعية والمعرفة العامة. لأن النظرية نفسها يمكن أن تلعب دور العائق الابستمولوجي في مجال العلوم الإنسانية (علم الاجتماع- التاريخ) لدورها الإيديولوجي والمعرفي عندما تضع مجموعة من المفاهيم المنغلقة، ويسعى الباحث إلى جعل الوقائع في خدمتها أي الانطلاق من النظرية إلى بناء الواقع العلمي. ولهذا السبب انطلق الأستاذ وقيدي لدراسة العائق الإيديولوجي، وبيان ضرورة النقد الابستمولوجي في مجال العلوم الإنسانية في العالم العربي لتحقيق قفزات كيفية، ووعي الممارسة العلمية بذاتها.
  • لهذا النقاش الابستمولوجي تناول في مؤلفه "كتابة التاريخ الوطني" المعرفة التاريخية المنجزة في الفترة الاستعمارية، ولم يقف عند حدود البحث عن الخلفيات الإيديولوجية، بل سعى إلى هدم المعرفة من داخلها من خلال إبراز عدم التطابق بين المفاهيم والواقع الذي تناوله بالدرس، وهذه المرحلة هي الممهدة لإنتاج أبحاث سوسيولوجية وتاريخية بديلة عما أنتجته الفترة الاستعمارية بإعادة كتابة التاريخ الوطني، أو ما سماه بالتوازن المعرفي أي بعبارة أخرى التمييز بين مستويين هما: النقد والتأسيس.

فإذا كان النقد ينصب على العائق الأيديولوجي في الدراسات الاجتماعية والتاريخية، فهو يقر بمجموعة من الصعوبات التي تعترض لحظة التأسيس، ويلخصها فيما يلي:

  • الانزلاق نحو المغالاة في مفهوم الخصوصية.
  • عدم القدرة على بناء نظريات مطابقة وصياغة المفاهيم الملائمة.
  • الشك في قيمة مساهمات الباحثين على المستوى العلمي والنظري.

ورغم هذه الصعوبات يطرح وقيدي مفهوم التوازن المعرفي في مقابل ما يراه قائما من اختلال في مجال البحث والذي تجسد على مستويات متعددة:

  • على مستوى الكم بين ما أنتج في الفترة الاستعمارية والدراسات الأنكلوساكسونية، وما أنتجه الباحثون المغاربة.

- على مستوى الكيف فإن التوازن منعدم لأن النظريات الأساسية في العلوم الإنسانية من إنتاج علماء الغرب، بحيث يجد الباحث المغربي نفسه مترددا بين النظريات التجزيئية والبنيوية، والتاريخانية، وأقصى ما يصل إليه هو نقد بعض هذه النظريات وبيان عدم إجرائيتها.

  • هذه الصعوبات طرح مفهوم التوازن المعرفي في مقابل ما يراه قائما من اختلال في مجال البحث والذي يتجسد على مستوى الكم بين ما أنتج في الفترة الاستعمارية، والدراسات الأنكلوساكسونية، من جهة وما أنتجه الباحثون المغاربة من جهة ثانية. وعلى مستوى الكيف فإن التوازن منعدم لأن النظريات الأساسية في العلوم الإنسانية من إنتاج علماء الغرب. .
  • سينطلق إلى مرحلة نقد المعرفة السوسيولوجية التي تناولت المجتمع العربي، وسيقدم لنا نماذج من هذا الإنتاج المعرفي، ويحاول أن يتجاوز النقد إلى البناء. ولم يقف بهذا النقد عند حدود البحث عن الخلفيات الأيديولوجية، بل سعى إلى هدم المعرفة من داخلها من خلال إبراز عدم التطابق بين المفاهيم والواقع، وهذه المرحلة من النقد هي الممهدة لإنتاج أبحاث سوسيولوجية وتاريخية بديلة، وذلك بإعادة ما سماه التوازن المعرفي.

ما المقصود بالتوازن المعرفي؟

إنه التمييز بين مستويين هما: النقد والتأسيس الإبستمولوجيين، وهنا يستعرض ذ. وقيدي الصعوبات التي تعترض لحظة التأسيس وهي: .

  • الانزلاق نحو المغالاة في مفهوم الخصوصية. .

- عدم القدرة على بناء نظريات مطابقة وصياغة المفاهيم الملائمة بفرط النقد.

  • الشك في قيمة مساهمة الباحث العربي على المستوى العلمي والنظري. .
  • جرد كل هذه الصعوبات يخرج من نقده الابستمولوجي متفائلا إلى لحظة التأسيس التي يلمسها في أعمال الباحثين المغاربة خاصة في مجال الكتابة التاريخية،وهي بداية استعادة التوازن المعرفي في دراسة تاريخ المجتمع المغربي، وتعرض بإسهاب إلى رأي عبد الكبير الخطيبي، وأنور عبد المالك في مجال علم الاجتماع، وعبد الله العروي، وبعض المؤرخين المغاربة في مجال الكتابة التاريخية الذين حاولوا بنا المواضيع بكيفية مغايرة واللجوء إلى وسائل جديدة تقتضي النقد من أجل التأسيس. .

وعبر هذه النماذج حاول أن يتتبع بعض القضايا الابستمولوجية في العلوم الإنسانية ويبحث في التوازن المعرفي الذي بدأ يتحقق بفضل بعض الأبحاث المعاصرة في المغرب، وبنقاشه هذا اختزل كثيرا من القضايا النظرية التي كانت تعترض كل باحث لتجاوز التراكم المعرفي السابق.

لكن التساؤل الابستمولوجي الذي انطلق منه وقيدي يبقى ساري المفعول هو: هل النتائج التي توصل إليها عبر هذه النماذج يمكن تعميمها وانطباقها على غيرها من الأبحاث؟

عمر الإبوركي ( باحث في السوسيولوجيا)