الخميس 28 مارس 2024
سياسة

طقوس رمضان عند العلويين: من مولاي إسماعيل إلى محمد السادس

طقوس رمضان عند العلويين: من مولاي إسماعيل إلى محمد السادس

خلال شهر رمضان لا تختلف طقوس الملك محمد السادس في شهر رمضان عن طقوس أجداده السلاطين العلويين، إلا أن المتغير هو طغيان ملامح شخصية الملك محمد السادس الإنسانية من خلال برمجة مشاريع خيرية وتضامنية وتقديم مساعدات إنسانية خلال الشهر الفضيل بما له من قدسية كبيرة لدى المغاربة، إلى جانب إظهاره عناية فائقة وعلى غرار أجداده الأوائل بالمساجد من خلال تدشين المساجد الكبرى خلال الشهر الفضيل وحرصه الشديد على تتبع ترميم أو إعادة بناء المساجد التاريخية والقديمة لتتسع لصلاة الحشود الهائلة من المصلين بمختلف ربوع البلاد خلال شهر رمضان، ليس هذا فحسب فالظهير الذي أصدره الملك محمد السادس من قبل والذي يمنع بمقتضاه الأئمة والخطباء من ممارسة أي «نشاط سياسي» هو تعبير واضح عن موقف حازم للدولة ضد محاولات توظيف المؤسسات الدينية والمساجد لخدمة ايديولوجيات دينية متطرفة.

تشبث الملك محمد السادس بطقوس أجداده خلال شهر رمضان إذن هو تكريس للنموذج المغربي في التدين المتميز عن البلاطات الشرقية.ولعل أبرز هذه الطقوس الرمضانية مجالس الدروس الحسنية الرمضانية التي تعتبر منبرا علميا يتفرد المغرب بإقامته على باقي دول العالم العربي والإسلامي، حيث يحضرها العلماء ليلقوا دروسا بين يدي أمير المؤمنين تتناول مختلف العلوم من تفسير وحديث وفقه وتصوف،بالإضافة إلى القضايا التي تشغل العالم مما يجعلها نقطة مضيئة للتواصل والتقارب وترسيخ لغة الجدل والحوار بين مختلف ألوان الطيف الإسلامي، وفق منهجية علمية قائمة على الوسطية والإعتدال في الطرح والمعالجة، مما يجعل الدروس الحسنية التي تعد من أبرز طقوس الملك محمد السادس خلال شهر رمضان رافدا مهما للحفاظ على الهوية الدينية للمغرب القائمة على الإسلام الوسطي ونبذ العنف والكراهية والتطرف.

ويبقى أهم تحول شهدته الدروس الحسنية في عهد الملك محمد السادس، هو إشراك المرأة المغربية العالمة في هذه المجالس، إذ اعتلت المرأة العالمة لأول مرة المنبر الحسني سنة 2003 في شخص الدكتورة رجاء ناجي مكاوي، أستاذة بكلية الحقوق بجامعة محمد الخامس بالرباط، وهو ما اعتبر منعطفا كبيرا في المسار العلمي للمرأة المغربية، واعترافا جميلا بقدراتها على الإدلاء بمعارفها في مجال الفقه والعلوم الشرعية.

اهتمام الحسن الأول بختم صحيح البخاري في رمضان

كشف النبش الذي قامت به "أنفاس بريس" أن الحسن الأول أظهر منذ أول عهده اهتمامـا عظيما بنشر العلم ورعاية العلمـاء وتعظيمهم، ولذلك كـان يبعث البعثات إلى الخارج لتلقي شتـى أنواع العلوم، كمـا كان يحضر مجالس العلم بنفسه ويناقش العلماء ويستشيرهـم في أمور الدولة. ومن تشجيعه للعلم وأهلـه أجزى لهم العطايا والمنح، حتـى تسابق الناس في الباديـة والحاضرة على حفظ المتون وإتقان القراءات. وكانت كـل أسرة تنجب ولدا يحفظ متنـا أو يتقن علم القراءات، تكـرم وتعفى من الخدمـات والتكاليف، وتمنح ظهير التوقير والإحترام، زيـادة على منحالحافظ صلة مهمة.

كما استمرت في عهده المجالس الحديثيـة التي يحضرها بنفسه ويستدعي لها العلمـاء من كل حدب وصوب، حيث يدرس الكتب الستة والموطأ في نحـو ستة وثلاثين مجلسا طوال عهد ملكه لا تنقطـع أبدا. ومن شـدة اهتمـام هذا السلطان بصحيح البخـاري وتعظيمه، أنه عندمـا بنى قصره بالرباط دشنه بحفل

عظيـم ختم فيه صحيح البخاري بمحضـر رجـال الدولـة وعلمائها، كما كان يقيم حفلات ختمـه وسرده، وتدريسه حاضرا ومسافـرا، كما فعل ذات مرة وقـد حل بالرباط خلال شهـر رمضان، فأتم بها صيامـه وأحيا العيد، وختم صحيح الإمـام البخاري بمحضر جم غفير من القضاة والعلماء والأعيان.

أبو الربيع سليمان.. السلطان الذي كان يقوم رمضان ويحيي لياليه بالإشفاع

"أنفاس بريس" توقفت عند عهد السلطان أبو الربيع سليمان الذي كان نادرة من نوادر البيت العلوي في الإشتغال بالعلم وإيثـار أهله، كما كـان جليلا نبيلا علامـة حجة كاملا، لا يجالس إلا الفقهاء والعلمـاء، ولا يبرم أمرا من أمـور المملكة إلا بعدمشاورتهم، وقد حصـر أغلب إهتمامـه العلمي على التفسير والحديث، ثم إنقطع للحديث وعكف عليه. وكـان له  مجلس خاصة بقراءة الجامع الصحيح لأبي عبد الله البخاري وسماعه والمذاكـرة فيه، يطفح بكبـار المحدثين والعلمـاء أمثال الشيخ أبي الفيـض حمدون بلحاج، والشيخ التـاودي بن سودة، والشيخ أبي العـلاء العراقي.

ومن شـدة إهتمام هـذا السلطان بعلم الحديث، كثرة مشيختـه وإهتمامه بوصـل سنده بسند شيوخه، من ذلك الفهرس الذي جمعه له كاتبـه أبو القاسم الزياني الذي ضم شيوخه الذيـن أخذ عنهم وسماه «جمهرة التيجان»، وفهرست اللؤلـؤ والمرجـان في ذكر الملوك وأشياخ مولانـا سليمان. وقد تحدث صاحـب «الإستقصا» عن مجالسـه الحديثية التي استمرت طوال عهده وتتأكـد في رمضان.

قال «وأمـا الدين والتقوى فذلك شعاره الذي إمتـاز به، ومذهبـه الذي يدين به، من أداء الفريضة لوقتهـا المختار حضرا وسفرا، وقيـام رمضان وإحياء لياليـه بالإشفاع، ينتقي لذلك الأسانيـد ومشايـخ القراء، ويجمـع أعيان العلمـاء لسرد الحديث الشريف وتفهمه، والمذاكرة فيه على مر الليالي والأيام، ويتأكد ذلك عنده في رمضان ويشاركهم بغزارة علمه وحسن ملكته،ويتناول راية السبق في فهم المسائـل التي يعجز عنها غيره فيصيب المفصل».

المولى اسماعيل كان يصوم  شهرين في العام

سلطان آخر توقفت عند " أنفاس بريس " ألا وهو المولى اسماعيل الذي عرف عنه ثباته وقوته على أصول الدين وقواعده. وبهذا الخصوص يقول عنه مؤرخ فرنسا سان لون «أما أخص أوصافه فهي الاعتقاد الراسخ في الدين، مستحضرا لآيات القرآن الكريم في كثير من أحواله، ومضحيا بنفسه في نشر الدين وعلو كلمته وبالجملة، فإنه لم يظهر ملك ذو قوة وثبات على أصول الدين وقواعده مثل مولاي إسماعيل منذ قرون، مطلع على العلوم الدينية متفقه، مستحضر لمسائلها الأصلية، يتمذهب بمذهب مالك، يصوم الكثير من الأيام زيادة على شهر رمضان المعظم عند المسلمين بمدة شهرين في العام، ما عرف عنه شرب الخمر، ولا أي مسكر، يعتمد على الله في سائر أحواله، إذا دخل الصلاة وتوجه بكليته إلى الله سبحانه، يتجرد عن نخوة الملك وحلته، ويطلب من الصلحاء والحجاج والعلماء الإكثار له من الدعاء، عن ظهر الغيب».

وتسهب كتب التاريخ في الحديث عن الشغف الكبير للمولى اسماعيل بالعلم والعلماء وبكتاب الله طوال أشهر السنة، وخصوصا في شهر رمضان وبعض المناسبات الدينية، حيث جاء في شهادة أحد الرحالة الإنجليز «ستيورت»، وهو يتحدث عن مشاهدته لمدينة مكناس إذ يقول: «توجد بهذه المدينة مدارس عديدة يتعلم فيها الصبيان الكتابة والقراءة والحساب، ويحفظون القرآن عن ظهر قلب؛ فإذا ما حفظوه اشترى لهم آباؤهم أفراسا هدية، ويتناولون المصحف بأيديهم، ويركبون الأفراس يتفسحون عليها، وتأتي إليهم أجواق الطرب، وسائر صبيان المكتب تذهب لتفسح مع المحتفل به، حافظ القرءان، وبعد ذلك فمن أراد منهم قراءة الفقه يتوجه للمساجد».

وكان المولى اسماعيل متحليا بأخلاق جده سيد الأنام -عليه الصلاة والسلام - يفعل وجوه البر من صلاة و صيام وقيام الليل وإطعام الطعام وتزويج اليتامى، وإعانة الضعفاء وتحرير الرقاب، وقضاء الأغراض و المآرب، وخصوصا في شهور رجب و شعبان ورمضان.

وكان له وقت خاص في الأسبوع لحوار العلماء بقصد مشاركته معهم في درس بعض الفنون العلمية وسرد الحديث، خصوصا في شهري شعبان ورمضان، وجمع شتات المكارم، ناشئا مع تحليه بحلية التقوى، والتمسك بحبل التوفيق الأقوى، وخوف ورجاء، وإخلاص.

أبو شعيب الدكالي شيخ مجالس محمد الخامس

عرفت المجالس الحديثية ازدهارا في عهد الملك محمـد الخامس، بسبب النهضـة التعليمية التي دعا إليهـا وتبناهـا، والحركة الإصلاحية التي كان رائدهـا: وقد كانت تختلف أوقاتهـا أحيانـا وتتعطل أحيانـا للظروف الصعبة القاسية التي كانت يمـر بها المغرب، والتي كـان يفرضها الإستعمار بسبب سياسته وتعنته.

وكانت هـذه المجالس في أول عهدهـا تتكون من علماء المغرب الموظفيـن بالقصر الملكي، وبعض أعضاء مجلس الاستئناف الشرعي والمحكمة العليا وقليـل من كتاب مختلف الوزارات أو الموظفيـن خارجها كبعض أعيان القضاة; ويرأسها إـا وزير العدل أو رئيس مجلس الإستئناف الشرعي.

وقد كـان شيخ هـذه المجالس الحديثية في عهـد محمد الخامس الحافـظ الشيخ أبـو شعيب الدكالي، فلمـا توفي تناوب على رئاستهـا الشيخ محمد العربي العلوي والشيخ المدنـي بن الحسني، كمـا كان من بين أعضائهـا العلامـة محمد الحجوي والعلامـة محمد السائد وغيرها.

طقوس الحسن الثاني في رمضان

من أبرز الطقوس التي تنقلها "أنفاس بريس" عن عصر الملك الحسن الثاني تمكنه من إحياء أحد الطقوس في شهر رمضان وهي: «ليلة شعبانة» المعروفة لدى الأوساط الشعبية المغربية، وهي من الطقوس التي ورثها عن جده المولى اسماعيل الذي كان يحرص هو الآخر على إحياء طقوسها، قبل أن يختفي هذا الطقس بعد وفاة المولى إسماعيل وقد حرص الحسن الثاني على إحيائها واستدعاء بعض المقربين إليها من الفنانين والفقهاء والشعراء. وكان الملك الراحل يستقبل اقتراب حلول رمضان بتنظيم «شعبانة» برحاب القصر الملكي بالرباط من خلال استدعاء جميع

الأهازيج الشعبية الممثلة للخريطة الفنية الشعبية المغربية. ولم تكن« ليلة شعبانة» مجرد ليلة واحدة فقط كما هي العادة، وإنما ليالي «شعبانة»، إذ كانت تخصص ليلة للفولكلور وأخرى للغناء الشعبي وأخرى للغناء العصري وأخرى للفكاهة. وكان الراحل الحسن الثاني يخصص مبالغ مالية هامة يقدمها

للفنانين المشاركين والذين كانوا ينتظرون «شعبانة» الملكية بفارغ الصبر مع قرب حلول شهر رمضان، إذ كان الملك الراحل يغدق فيها على الفنانين أموالا كثيرة من ماله الخاص. في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني كانت بشرى رؤية الهلال تنطلق من القصر الملكي بالرباط، إذ كان يصعد إلى سطح القصر عازف «الغيطة» ذائع الصيت آنذاك في العدوتين (الرباط وسلا)، «الكَمرة»، فينطلق بإنشاد مقطوعات مشهورة، وقد عرف باتقانه الكبير للعزف على «الغيطة»، كيف لا وهو «غياط» القصر. وبعد ذلك دأبت التفلزة المغربية على بث صور «الكَمرة» وهو يعزف على «الغيطة» قبل الإعلان عن بشرى ثبوت رؤية الهلال. وقد دام الحال على هذا المنوال لمدة سنوات عديدة، لدرجة أصبح ظهور «الكَمرة» بتلفزة دار البريهي مرتبطا ببشرى قدوم شهر رمضان أو الإعلان عن نهايته وقدوم عيد الفطر.