Saturday 9 August 2025
كتاب الرأي

عبد اللطيف رويان: من فشل الجريمة إلى التوبة المؤجلة.. المجرم العالق وسؤال الإدماج

 
 
عبد اللطيف رويان: من فشل الجريمة إلى التوبة المؤجلة.. المجرم العالق وسؤال الإدماج عبد اللطيف رويان
في تخوم الهامش، حيث يتشابك الصمت مع الخوف، يتسلّل سؤال مُربك إلى عقول الباحثين في علم الجريمة: ماذا عن أولئك الذين خسروا قبل أن تبدأ اللعبة؟ لسنا بصدد "المجرمين الناجحين" الذين أربكوا الأجهزة الأمنية بعمليات سطو مسلّح على الوكالات البنكية، أو الذين أداروا شبكات منظمة لتهريب المخدرات والمؤثرات العقلية... بل عن فئة أخرى، باهتة الحضور في السرديات الجنائية، هم "الفاشلون" في عالم الجريمة. أولئك الذين لم يتوقفوا لأنهم تابوا أو استيقظ ضميرهم، بل لأنهم افتقروا منذ البداية إلى مفاتيح البقاء: لا رأسمال رمزي يحميهم، ولا شبكات دعم تظلّلهم، ولا حتى القدرة على الانصهار في منطق عالمٍ تحكمه قواعد قاسية لا ترحم من يتعثّر.
 
هذا "الفشل الإجرامي"، الذي قد يبدو في ظاهره إخفاقًا فرديًا، يُجسّد في جوهره مرآة لهشاشة بنيوية أعمق. فعندما يُقصى المنحرف العالق من دوائر الإدماج المشروع، ويُقصى مرةً أخرى من منظومات الجريمة، بشتى شبكاتها وتراتبياتها ومناطق نفوذها، نكون أمام حالة تيه مزدوج: ضياع داخل الشرعية، وضياع حتى في قلب اللاشرعية. إنها اللحظة التي لا يُحتضَن فيها الفاعل لا من طرف المجتمع، ولا من قِبَل الشبكات الإجرامية، فيتحوّل إلى كائن مُعلّق، خارج التعاقد الاجتماعي وخارج منطق السوق الإجرامية، لا يجد له موطئ قدم، لا في القانون ولا خارجه.
في السياق المغربي، تكشف المعطيات الميدانية عن حضور متواتر لفئة شاردة من الفاعلين، يمكن توصيفهم بـ"المنحرفين العالقين": شباب خاضوا محاولات أولية للتسلل إلى عوالم الجريمة والانحراف، لكن سرعان ما لفظهم النسق، إما تحت وطأة الرقابة الأمنية المكثفة، أو نتيجة لآليات الإقصاء التي تُفعّلها شبكات الإجرام ذاتها، أو بسبب عوامل ذاتية تتعلق بغياب الكفاءة الإجرامية أو هشاشة البنية النفسية والاجتماعية. فالجريمة، في وضعها الراهن، لم تعد فضاءً مفتوحًا كما قد يُتصوَّر، بل أصبحت تشتغل بمنطق انتقائي صارم، لا يُفسح المجال فيه إلا لمن يمتلك مقومات التكيّف، والانضباط، وتحقيق الربح، إلى جانب رصيد معتبر من الرأسمال الرمزي والعملي، الذي يُعد شرطًا ضمنيًا للاندماج الفعلي في اقتصاد الجريمة.
 
لكن، هل يُمثّل هذا الفشل منعطفًا نحو التوبة؟ ليس بالضرورة. فكثير من هؤلاء لا يرون في إخفاقهم إلا انعكاسًا إضافيًا للهشاشة والتهميش، مما يدفعهم إلى أطوار من الانحراف المتقطع، أو الانهيار النفسي، أو حتى انفجارات عنفية تُراد لإثبات الذات. بل إن بعضهم يُعيد الكرّة مرارًا، كمن يبحث بإلحاح عن موطئ قدم في مجتمع لا يكفّ عن إقصائه في كل مرة.
 
في المقابل، تميل السياسات العمومية إلى تركيز اهتمامها على "الجريمة الناجحة"، باعتبارها التهديد المركزي للأمن والنظام، في حين يُركَن الفشل الإجرامي إلى الهامش، ويُختزل غالبًا في صورة "المجرم الغبي" أو "غير المؤهَّل"، بما يُقصي جانبًا مهمًا من الحقيقة، ويُفوّت على المنظومة المؤسسية فرصة ثمينة لتفعيل برامج تدخلية ذات بُعد وقائي، تدعم مسارات التوبة والانفلات المبكر من دوائر الانحراف قبل أن تتجذر كتهديد فعلي.
 
ويزداد هذا التغييب حدة في الفضاء الإعلامي، حيث يُنتج الخطاب السائد التسلية من هشاشة الفاشلين إجراميًا. فبرامج تلفزيونية عالمية ساخرة باتت تُخصص حلقاتها لما يُعرف بـ"المجرمين الأغبياء"، وتعرض مشاهد حقيقية لمجرمين أخفقوا في تنفيذ جرائمهم بطريقة تثير الضحك، فتُحول الانحرافات الفاشلة إلى مادة للفرجة، وتُجرّد الفاعلين من إنسانيتهم، وتُقدّمهم ككائنات عبثية بدل قراءتهم كدلائل على أعطاب اجتماعية عميقة. إن غياب آليات الإصغاء والمواكبة في لحظة التعثّر الأولى، يُحوّل الفشل من عتبة محتملة للإصلاح إلى مقدّمة للنكوص، ويُغذي حالات العود والانغلاق، فيما تُعاد إنتاج الهشاشة على شكل كاريكاتوري، ويُختزل الفشل الإجرامي في نكتة عابرة، بدل أن يُفهم كعلامة فارقة على تعثر بنيوي وفرصة ضائعة للتدخل الاجتماعي.
 
إن الفاعل الذي يفشل في الجريمة لا يقدّم للمجتمع فرصة للاحتفال، بل فرصة للتأمّل. فهو مؤشر على عطب في بنية الإدماج، كما هو مؤشر على فتحة ممكنة للتدخل. في لحظة الفشل، يكون الفاعل في أقصى درجات هشاشته، وفي أشد الحاجة لمن يرى فيه إمكانًا لا مجرد خطر. لكن حين يُترك يتآكل في صمته، تتحوّل لحظة التعثر إلى جرح مفتوح، قد لا يندمل إلا بالمزيد من العنف أو التوحّش.
 
من هنا، تقتضي العدالة الجنائية في صيغتها الراهنة ألا تقف عند حدود من نفّذ الجريمة، بل أن تُصغي أيضًا إلى من لم يُفلح في ارتكابها؛ إلى ذاك المنحرف العالق الذي تعثّر، لا لأنه تراجع، بل لأنه لم يجد سبيلًا. إنها متلازمة الفشل الإجرامي، لا باعتبارها تمجيدًا للعجز والفشل، بل كعدسة تحليلية جديدة لفهم مجتمع يقسو حتى في هوامشه، ويقسو أكثر حين يعجز عن تحويل الإخفاق إلى فرصة ثانية للاندماج.
 

                                                                       د.عبد اللطيف رويان

باحث في سوسيولوجيا الجريمة والانحراف