Sunday 10 August 2025
منبر أنفاس

عبد العزيز حنون: الكلب الأبيض

 
 
عبد العزيز حنون: الكلب الأبيض عبد العزيز حنون
كل الأسماء التي كانت تأخذها الحيوانات الموجودة في "الخيمة"تتسم بالدقة و تنبع من العلامات والأوصاف الملتصقة بها و الدالة عليها. يقال البقرة الصفراء والحمارة الشهباء و والنعجة الدرعاء، يعني السوداء، وهكذا.

كانت ألوان الكلاب التي تروج في الدوار تتراوح بين الأصفر أو البني مع بقع بيضاء. كما أن نوعية الكلاب كانت تلك البلدية التي لا تجيد إلا النباح على السحاب وأكل البيض المتناثر بين جدوع نبات الصبار حيث يستظل الدجاج ويبحث عن قوته ويبيض ويفرخ. قلما تجد كلبا سلوقيا إلا عند من ابتلوا بالصيد.

ذات صباح من أيام الله حل بالخيمة ضيف جديد وغريب. كلب أبيض فاقع البياض ومتناسق الجسم، ربما كان من صنف الكلاب البوليسية. دخل مباشرة نحو سيدة المكان، جدتي رحمها الله. كانت تفهم حاجيات كل كائن في محيطها. أمرت بإعطائة ما يأكل ومده بالماء. نال وجبة الضيافة و الملاطفة المطمئنة من جدتي "مرحبا بضيف الله". احترام حقيقي لجميع المخلوقات!

استأنس بسرعة بمن في الدار وتجول هنا وهناك وكأنه يعرفنا ونعرفه من زمان. حاولت الجدة معرفة صاحبه و لم تصل إلى نتيجة. لكنها عمقت البحث، لا بد من الوصول للحقيقة وللمعلومة الدقيقة.

البحث في البادية مستويات، هناك البحث الهاوي الذي لا يلوي على شيء، وهناك التحقيق بما تعني الكلمة من معانى. كان هناك مختصون في معرفة وجهة الدواب و حركتها فوق الأرض فقط من تتبع الأثر. كان أهم ما يقوم به السراق "فول فرقش" هو محاولة محو أثر مسير "الكسيبة المسروقة"، لكن هيهات! كان يتم اكتشاف السراق من عشرات الكلمترات وقتئد، فترجع المواشي المسروقة إلى مكانها في عمل تفاوضي بعيد عن السلطة والمحاكم.

التقصي المتخصص للجدة جاء بالخبر اليقين ل"مي طامو" أن الكلب الأبيض في ملكية "الكارد فوريستي"، وهو حارس الغابة القريبة من الدوار. تسمى غابة "العروك". كانت محروسة بمبرر إبعاد الاستغلال "المخرب" والجائر من طرف ساكني القبيلة. لكن حقيقة الأمر في هذا التشدد في الحراسة هو الحفاظ عليها من "العامة" و"الدهماء" من أجل صيد يوم أو أسبوع في العام لعلية القوم الذين يأتون من بعيد.

هذا المنع لم يمنع الساكنة المحلية من التأقلم مع الوضع والقيام بما يشبه لعبة القط والفأر، أو دهن السير يسير، مع حراسها من أجل الرعي وأيضا لاحتطاب بعض عيدان الطهي. لم يكن وقتئد شيء اسمه البوطغاز. كان من أساسيات الخيمة، بل من شروط الحياة هو أن تتوفر على الماء للشرب والعواد للطهي أما الرزق فهو على رب العباد. وظيفة إحضار الحطب كانت من نصيب النساء كما هو الشأن الآن في بعض مناطق المغرب المنسي.

عرفت مي طامو من أين أتى هذا الكلب الأبيض الجميل، فأصرت على إرساله لصاحبه. ما هي إلا أيام حتى عاد عندنا من جديد. كررت عملية الرد عدة مرات لكنه أصر على العودة للخيمة. وفي الأخير تركه صاحبه عن طيب خاطر حيث اختار قلب الكلب البقاء. يقال في اللغة المحلية أنه "حوَّز" عند خيمة فلان. كان تحواز الحيوانات الأليفة من قطط وكلاب رمزا للبركة والخير. يقال حتى قط ما يهرب من دار العرس. والعكس بالعكس الحيوانات بدورها تحب الاستقرار حيث الخير الوفير.

بقي عندنا يرافق قطيع الغنم والبقر يوميا، يغدو معها في الصباح ويروح في المساء. كان لا ينبح إلا لماما، لطيفا ومطيعا لكل من في الدار، لكنه يبدي شراسة في وجه الغرباء وخصوصا في الليل حيث يبعد المتطفلين من البشر و کذا زرافات الذئاب والخنازير التي كانت تهجم ليلا. يبيت حارسا يقظا في الوقت الذي كان فيه "المجاحيم" يغطون في النوم أو ينبحون بين الفينة والاخرى على مرور الغمام.

اشتهر الكلب الأبيض و داع صيته في المنطقة كما أعطى الهيبة للخيمة و أيضا لتلك التي كانت تكثر من النباح و لا تستطيع أن تحرس حتى نفسها. مرت بضعة أشهر، مرض ومات. قيل أن بعض أصحاب الحسنات "وكلوه". فهمتم معنى وكلوه ؟