الأحد 22 سبتمبر 2024
سياسة

الأستاذ محمد المرابط يكتب عن: في غياب المؤسسات.. ندوة السلفية ونزوع الاستبداد،من السيكولوجيا إلى السياسة

الأستاذ محمد المرابط يكتب عن: في غياب المؤسسات.. ندوة السلفية ونزوع الاستبداد،من السيكولوجيا إلى السياسة

يبقى إلى جانب عنوان اليوم، لختم الحديث عن ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية، الوقوف في قادم الأيام على مستويين: الأول داخلي، ويتعلق برصد ضروب الوعي الإيديولوجي في تلقي هذه الندوة. والثاني خارجي، ويتعلق بوضع هذه الندوة في إطار "حروب الظل" للسعودية الدعوة في المغرب.

لقد اعتمدت الدولة في استتباب الأمن الروحي على خيار المؤلفة قلوبهم. وهو خيار أثبت فشله وما زال يثبته يوما بعد يوم. والغريب أن الدولة منخرطة في التستر على هذا الفشل، في حين أن القوم لم يبق لهم لإحكام السيطرة على البلاد إلا المؤسسة الأمنية والعسكرية. آنذاك سيكون لهم معنا كمغاربة حديث آخر. لكن نسجل في المقابل أن الدولة تراكم المكتسبات على طريق الأمن المادي، وننعم كمغاربة بهذه المكتسبات، لأن الدولة اقتنعت بمداخل الحكامة الأمنية القانونية والحقوقية.. واعتمدت على "أولاد الناس"، وطنيين يعبرون على الملأ، أن وطنهم يستحق حتى التضحية بحياتهم. ألم يتحدث بهذا الزخم الوطني الأستاذ عبد الحق الخيام، في "الأحداث المغربية" 17/4/2015؟ إذن لماذا نجح هؤلاء فيما فشل فيه المؤلفة قلوبهم؟

ببساطة، فرجال الأمن بمعناه المادي يتمتعون بعقيدة وطنية، في حين لا يتمتع معظم أصحاب الأمن الروحي بعقيدة الثوابت المغربية. ومع هذا الوضوح في الخريطة الأمنية بشقيها المادي والروحي، فإن الدولة تميل إلى تزيين سوء عملهم، وقد فشلت من خلال المؤسسة الدينية في ضمان ولائهم المذهبي لها، وتركت لرجال الأمن ضمان ولائهم السياسي، والكل يراهن على انتظار الآتي. أعتقد أن تجيير الدولة لهؤلاء أضعف ويضعف مناعة المجتمع والدولة إلى حد كبير. وهذا من أسباب تراجع الثوابت الدينية للمغرب إلى الرتبة الثالثة، وتبوء الوهابية الرتبة الأولي.

وبهذا تكبر أخطاء الدولة، وهي كثيرة، منذ الاستقلال: في الجهات، من الريف إلى الصحراء. وفي السياسة، من انقلاب ماي 1960 إلى الخروج عن المنهجية الديمقراطية. وفي الدين، من اغتيال الشهيد عمر بن جلون إلى ندوة المجلس العلمي الأعلى حول السلفية. أخطاء الدولة عديدة في الاقتصاد وحقوق الإنسان والتعليم.. لكن تبقى الدولة خيمتنا الجامعة، كلما رصدنا فتقا يجب أن نتداعى جميعا لرتقه، لا لهدمها فوق رؤوسنا. وهذا فعل النضال الفكري والسياسي والحقوقي.. في البلاد. لا مجال للعدمية، من أي مدخل كان. لكن يبقى من أخطاء الدولة التي لا تنجبر، تغذية اليأس من الإصلاح. وهذا باب عريض لتأمل العقلاء.

ندوة السلفية وما تلاها في المجلس العلمي بالمضيق، تحت عنوان"مسؤولية العلماء تجاه التيار الحداثي"، في سياق الاحتفال بذكرى 16ماي الألمية، بنكهة خاصة في مسمى الشحن الإيديولوجي للتطرف، من هجوم على الموسيقى الروحية، وعلى التصوف المغربي ورجالاته، وفي مستوى واحد من الهجوم على الحداثيين. وهو عنوان -إذ يجعل بوقائعه، إمارة المؤمنين لا تفي بضمان الطمأنينة الروحية حتى لأمير المؤمنين- يجعلني استحضر مقطع: "ومن غياب الوعي عنكم، كم أخاف من الغياب"، من أغنية "أنا مواطن" للطفي بوشناق، التي يجب إسماعها للمؤلفة قلوبهم، في حب الوطن. والصلاة المشيشية، في الذات المستقلة للمغرب.

ما كان أن يتم هذا التناسل، لو لم تكن ندوة المجلس العلمي الأعلى معنية بشرعنة استيراد كل ما يلزم من عدة إيديولوجية لإحكام الوصاية على المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر. ادعت تحقيق المفهوم وبيان المضمون، لكنها فشلت في هذا الاستحقاق المنهجي. لكنها نجحت بفعل إرادة التدليس، في الاستحقاق الإيديولوجي على نهج التمكين لخريطة التمدد الأصولي المريح في مفاصل المجتمع والدولة. نجحت في جعل المغرب بلدا أصوليا، يختفي وراء الدليل في الفقه، ويختفي وراء السلفية في الاعتقاد، فنجحت بذلك في اختزال إمارة المؤمنين، إلى إمارة وهابية. نجحت في إنجاز المصالحة الرسمية مع الوهابية والإخوان المسلمين، لتخصيب الآلة الانتخابية لمواقع الأصولية، ظنا من أصحاب هذه الهندسة العسكرية/ الأصولية، أن هذا التحالف يغذي المشروعية الدينية للدولة، لمواجهة المطالب الإصلاحية للقوى الديمقراطية، بما في ذلك استعمال سلاح التكفير. ولعل هذا ما يفسر حلقات التراجع في المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي لصاحب الأمر، الذي لم يعد له من الأمر، بلغة الاستعارة، إلا أن ينزل بدوره إلى الشارع. وخارج مسحة البلاغة، فالوضع دقيق للغاية، ويتطلب مسحة مقاربة مغايرة.

جزء من هذا الإشكال يرجع إلى بعض أعطاب النخبة المخزنية، ربما لنقص في الحس السياسي اللازم، ربما لنقص في الإحاطة بدقائق الأمور، ربما لنقص في شجاعة تحمل تبعات منطق المسؤولية. كل هذا من الوارد. لكن تبقى هناك جوانب، منها أن بعض المثقفين بمجرد ما يحرقون الحجب، ويقفون على المدى الواسع لغياب منطق المؤسسات، نجدهم -عوض الانكباب بتواضع أهل الطريق، على ترتيب الأمور وتصحيح الاختلالات، وتوسل فضيلة الإنصات في ذلك- منشغلين بإعادة إنتاج الاستبداد في كل شيء. لا يتورعون لهذه الغاية في تزييف المعطيات والوقائع وحتى التاريخ. ويظنون بذلك أنهم يحسنون صنعا.

ينضاف في هذا الإشكال، تقديم القوى الحية لاستقالة عقولها، هل سمعنا مثلا، حسيسا للقوى الديمقراطية على ما قاله الشيخ السلفي محمد زحل في ندوة المجلس العلمي الأعلى، وما تردد في المجلس العلمي بالمضيق؟ هل ردت الزوايا على هجمة أعضاء من المجلس العلمي الأعلى والمجالس المحلية على التصوف، والتهكم على دار الضمانة والقطب ابن مشيش، كما يفعل الأستاذ توفيق الغلبزوري المعروف بإقصائه للصلحاء، وقد دشن هذا التمرين مع صلحاء الريف، على المستوى العلمي فأحرى على المستوى الإيديولوجي؟

لقد أصبح الجميع يستهلك بانبهار ما يقدم إليه، بدون وعي نقدي بفعل موجة التسطيح الفكري والسياسي في البلاد. وفي هذا خدمة للاستبداد والتخلف. وما بين هذه الجوانب يضيع حلم وطن، كل يوم أنتم  ترذلون، هكذا أصبحنا وطنا وثوابت ومؤسسات، كل يوم أنتم فيه ترذلون.

كل هذا يحلينا مرة أخرى، على تدخل الشيخ زحل في ندوة السلفية، وقد كشف المستور. زحل وهو يحرض بطرف خفي ضد العمل في سلك الدولة بضرب الأمثال، وإن كانت القراءة الإعلامية ركزت على معنى استدراك عدم كفاية المخصصات المادية للعلماء والدعاة، لم يتم الاستدراك عليه. زحل وهو يعبر عن اعتزازه بالانتماء إلى الشبيبة الإسلامية، وهي التي تقف وراء اغتيال الشهيد عمر بنجلون، لم يتم الاستدراك عليه. زحل وهو يزيف تاريخ الحركة الوطنية، لم يتم الاستدراك عليه. زحل وهو يدعو إلى اصطفاف القصر والأصولية -من منطلق أن العرش والإسلام مستهدفان- لمواجهة القوى الديمقراطية، لم يتم الاستدراك عليه.

صولة زحل وهو يعرض هذه الخدمة للعودة إلى ما يعرف بسنوات الرصاص، تم تتويجها من قبل الأستاذ التوفيق وهو يهرول لتقبيل رأسه. وهذه الصولة ما كانت لتتم لولا إدراك الرجل قابلية جزء من النظام لسلفية الاستبداد. واستدراج زحل للتوفيق في سيمياء صورة التقبيل، دال في باب قدرة الأصولية على استدراج تذبذب النخب، لمواقع التماهي مع هؤلاء الخوارج.

ما حصل يستدعي بعض البيان. لا أذكر متى كتبت أن محمدا بن الحسن هو على البراءة الأصلية. أي نعتبره ملكا على الفطرة التي فطره الله عليها. وهذا من نعم الله عليه، زاده الله من فضله. لذلك فرسالة الأصولية في ندوة السلفية إلى القصر، على لسان الشيخ زحل، تعتريني معها حالة جذب، يعلم الله مداها، فمحمد بن الحسن فوق هذه الرسائل الملغومة؛ فهو لم يقمع انتفاضة، لا جهوية، ولا طلابية، ولا عمالية، ولا خبزية. ولم يضع أماكن سرية للاحتجاز القسري، ولم يغضب في حق شعبه. ولم.. ولم.. بل تمكن من خلال نبله وتواضعه وشهامته أن يجسد معنى السلطان على القلوب، فأصبح المغاربة على المستوى الإنساني، يحضنونه بآصرة حب الخوف عليه. وعلى المستوى الموضوعي استطاع أن يغذي الأمل في المستقبل من خلال تبنيه للمشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، وبالتالي فهو في اعتقادي غير معني بأي عرض/ رسالة، من زحل أو غيره، مباشر أو غير مباشر كالإيحاء مثلا، بكون جنازة المرحوم الحسن الثاني، تمثل بفيض الإجماع الشعبي، استفتاء على سياسته، وينبغي مواصلتها، تماما كعرض زحل لإعادة إنتاج استبداد سنوات الرصاص. محمد بن الحسن غير معني بأي اصطفاف إيديولوجي وحتى سياسي. هو معني فيما أعتقد بشيء واحد، وهو الوفاء بالأمانة العظمى لمسؤوليته الدستورية والدينية.

لذلك فنحن غير معنيين بسباق المؤلفة قلوبهم على وتيرة إيقاع من يملك الملك، وإن كنا معنيين بصورة الملك الإصلاحية. لكن يبقى مبلغ تحفظنا،من موقع المواطنة المسؤولة، على التدبير المفوض للأصولية في الحقل الديني. ويبقى مبلغ عتبنا غياب فضيلة الإنصات فيما يتعلق بالمصالح العليا للبلاد من المدخل الديني.ويبقى مبلغ نضالنا على جبهة الدواة وأقلام القصب، إلى جانب البيان، أن يتدارك صاحب الأمر الأمة قبل فوات الأوان.

بهذا التواضع، يمكننا القول على سبيل الختم: إن الذين جعلوا من ندوة السلفية حنينا إلى سلفية سنوات الرصاص، وهدما لمرجعية إمارة المؤمنين، أبانوا عن تعطش كبير للاستبداد والفتنة. نعرف أنهم مبتهجون بقبضتهم العسكرية حد الانتشاء. لا مجال للإنصات لديهم، أيديهم على الزناد في قطوف سؤال الحداثة وحتى سؤال الثقافة، ونفاضة جراب فتوى القتل تترى! ألم تتم إعادة قتل الشهيد المهدي بنبركة في العهد الجديد ثلاثا؟ ألا يتحكم الأستاذ التوفيق في ميكانيزمات تنفيذ فتواه في أصحاب سؤال الحداثة، والخارجين في اعتباره عن آيات الحاكمية؟ ألم يتم تهديد هذا الورياغلي، المرابط على جبهة الثوابت المذهبية للبلاد بالتأديب، كما تم تأديب الزميل رشيد نيني،على نحو ما قالوا، وبتوظيف أسماء تنتمي إلى الدائرة الأمنية والسياسية للدولة، نعتبرها من الأفق الواعد للعهد الجديد، يعلم الله علمها بهذا التوظيف؟ حصل ذلك بالأمس من الموقع الديني، ويحصل اليوم هذا التهديد من الموقع الوهابي، وقد رأى القوم في هذا المرابط، سيسي المغرب. ومع هذا الزهو، فهم في ضيق مما يمكرون. أما نحن فعلى العهد، على مقتضى البيعة الوثقى للوطن، في رمزياته ورموزه ومؤسساته، في رحلة بحث عن منطق للدولة في الحقل الديني.