في زمن تتسارع فيه الأخبار أسرع من قدرتنا على التقاط أنفاسنا وتزدحم فيه الشاشات بضجيجٍ لا يهدأ من المعلومات لم يعد السؤال ماذا نعرف بل كيف نتعلّم؟
فالمعرفة، التي كانت يومًا معيارًا للكفاية، أصبحت اليوم متقلّبة، مؤقتة، سريعة الذوبان في عالمٍ يتغير كل لحظة لقد تحوّل الواقع المعاصر إلى فضاءٍ لا يكفي فيه حشد المعلومات، لأن المعرفة لم تعد هدفًا في حد ذاتها، بل خطوة أولى في مسارٍ أطول وأول هذا المسار يبدأ حين نمتلك جرأة الخروج من دائرة الجواب الجاهز إلى أفق السؤال المفتوح حين نغامر بنقد المسلّمات، ونمنح أنفسنا فرصة النظر إلى ما وراء المألوف
وهم الكفاية… والنهاية الصامتة للتعلّم
حين يصرّ الإنسان على قول أنا أعلم، فهو لا يعلن ثقةً، بل يعلن بداية التوقّف تلك اللحظة ليست فقط خروجًا من دائرة التعلّم، بل خروجًا تدريجيًا من نهر الحياة نفسه
فالتعلّم ليس نشاطًا ذهنيًا، بل حركة وجودية وحين يتجمّد العقل، يتجمّد معه العالم الداخلي للإنسان إن الجملة التي تُغلق الباب أمام التعلّم هي ذاتها التي تُطفئ شرارة الحياة فالمعرفة التي لا تتجدد تتحول إلى وزنٍ ميت وإلى يقين جامد يُعطّل القدرة على الاكتشاف
العقل الذي يفقد شغف السؤال يشبه نبعًا توقّف عن الجريان قد يبدو هادئًا في سطحه، لكنه في العمق يبدأ بالتحلّل فالمياه لا تبقى حية إلا ما دامت تتحرك، وكذلك الأرواح لا تبقى يقظة إلا ما دامت تتعلّم
لهذا لم يعد المطلوب اليوم أن نتعلم فقط، بل أن نتعلم كيف نتعلم كيف نصغي، وكيف نشك، وكيف نعيد النظر وكيف نُصاحب السؤال بدل الهروب منه
فالتعلّم ليس مهارة مدرسية، بل هو إيقاع الحياة نفسها، وما إن يتوقف عن التعلّم… يتوقف عن الحياة، دون أن يشعر
من المسلّمات إلى الشك الخطوة الأولى نحو الفهم
الانتقال من المسلّمات إلى الشك ليس سقوطًا في الفوضى كما يخشى البعض، بل هو خروجٌ ضروري إلى فضاء البحث فالحقائق الكبرى عبر التاريخ لم تولد في حضن اليقين، بل من رحم الأسئلة التي أزعجت المألوف وحرّكت العقول من سباتها إن الشك لم يكن يومًا نقيض الإيمان بالمعرفة، بل كان شرط تطورها وحدّها الفاصل بين الركود والتقدم فالعقول التي ترفض الشك تعيش تحت سقف منخفض لا يتيح لها أن تنهض أما العقول التي تُصغي للأسئلة، فهي وحدها القادرة على فتح نوافذ جديدة للمعنى
وفي زمن سريع الذوبان، حيث تتغير الحقائق بسرعة الضوء، لم يعد الشك ترفًا فكريًا، بل ضرورة معرفية تقي الإنسان من الاستسلام لليقينيات الجاهزة وتدفعه نحو فهمٍ أعمق للعالم ولذاته
حداثة سائلة… يقينيات تذوب
يعيش العالم اليوم ما يصفه علماء الاجتماع بـالحداثة السائلة تلك المرحلة التي يذوب فيها كل شيء المعاني، القيم، الروابط، وحتى الهويّات الفردية والجماعية إنها حداثة بلا موانئ، تتغير فيها الاتجاهات قبل أن تترسخ، وتذوب فيها اليقينيات كما يذوب الملح في الماء، لم يعد هناك ثابتٌ يطمئن إليه الإنسان طويلًا فما نعتبره يقينًا في الصباح قد يصبح متجاوزًا في المساء، وما نظنه قاعدةٌ صلبة اليوم قد يتحوّل غدًا إلى هامشٍ لا يُلتفت إليه
في هذا العالم المتحوّل، لم يعد التعلّم رفاهية ولا خيارًا ثانويًا
لقد أصبح مهارة البقاء الوحيدة، السلاح الذي يمكّن الإنسان من مواكبة عالم لا يتوقف عن الحركة، ومن فهم واقع يسبقنا بخطوة في كل لحظة
فمن لا يتعلم… يُدرج خارج الزمن من حيث لا يدري
ضجيج المعلومات… حين يغيب الإصغاء
ومع هذا السيل المتدفق من المعلومات، فقدنا أهم مهارة في التواصل الإنساني الإصغاء فحين نتوقف عن الإنصات، لا يعود العالم فضاءً للفهم، بل يتحوّل إلى ضجيجٍ متكدّس؛ويتحول الخبر مهما كانت أهميته إلى مجرد صوت عابر يمرّ دون أن يترك أثرًا أو يفتح أفقًا
إن الإصغاء ليس مهارة لغوية تكميلية، بل أداة وجودية لفهم العالم وإعادة ترتيب معناه وسط فوضى البيانات التي تحاصرنا فهو الذي يمنح الكلمة وزنها، والفكرة ضوءها، والمعلومة سياقها، وهو الجسر الوحيد الذي يربط بين المعرفة العميقة والمعرفة السطحية
وحين يغيب الإصغاء، ينهار هذا الجسر، فنغرق في عالمٍ يتحدث بإفراط… لكنه لا يفهم وفي زمن يزداد فيه الضجيج ويتقلّص فيه المعنى، يصبح الإصغاء فعل مقاومة، وشرطًا للوعي، وطريقًا لاستعادة الإنسان من وسط الفوضى لنصغي لبعضنا البعض ليس من أجل الجواب والرد الهجومي بل من أجل فهم الفكرة وإيجاد الحلول
الفكرة الحيّة… ليست كاملة
يبحث البعض عن فكرة كاملة، مصقولة بلا خطأ ولا تعثّر، كما لو أن الكمال ضمانة الحياة لكن الحقيقة أن الفكرة التي تخلو من الهفوة، تخلو من الحياة نفسها، فالهفوة ليست عيبًا، بل هي نَفَس الفكرة، العلامة الأولى على أنها تتحرك وتنمو وتتجدد فلكل شاعر هفوة ولكل فارس كبوة
فالفكرة التي لا تهتز لا تتقدم، والتي لا تتعرّض للخطأ لا تتعلم، والتي لا تتغير تبقى حبيسة شكلٍ جميل… لكنه بلا روح
أما الكمال، فهو حالة سكون لا تنتج أثرًا سطحٌ ناعم يخفي تحته ركودًا طويلًا والأفكار، مثل البشر، لا تُقاس بتماثلها المصقول، بل بالبصمة التي تتركها، وبالتحوّل الذي تُحدثه في الوعي أو في الحياة
خلاصة نحو ثقافة سؤالٍ لا يخشى الهفوة
إن التحدّي الأكبر في زمن السرعة ليس أن نعرف أكثر، بل أن نتعلّم أعمق فالمعرفة لم تعد تُقاس بحجم ما نُخزّنه، بل بقدرتنا على غربلته، وتأويله، وتحويله إلى وعي
ولهذا نحتاج إلى جرأة الشك، وهدوء الإصغاء، وشجاعة الاعتراف بأن الفكرة التي لا تهتز… لا تُثمر
في عالمٍ يذوب فيه كل شيء، تتبخر اليقينيات كما يتبخر الماء على صفيحٍ ساخن، وتتبدل الحقائق قبل أن يكتمل فهمنا لها، ويبقى السؤال هو آخر أشكال الصلابة الممكنة، المرساة التي يستند إليها العقل في محيطٍ متقلب، والنافذة التي نطلّ منها على معنى يتجدد لحظة بعد لحظة.
حميدي عبد الرفيع، باحث في قضايا الشباب والسياسات العمومية