Saturday 25 October 2025
Advertisement
كتاب الرأي

عبد الحي السملالي: إعادة تفعيل الزكاة في المغرب.. من الفتوى إلى السياسة العمومية 

عبد الحي السملالي: إعادة تفعيل الزكاة في المغرب.. من الفتوى إلى السياسة العمومية  عبد الحي السملالي
تشهد فريضة الزكاة في المغرب اليوم لحظة فارقة في مسارها التاريخي، بعد أن أصدر المجلس العلمي الأعلى فتوى شاملة بأحكامها بإذن من أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس في أكتوبر 2025. لقد تجاوزت هذه المبادرة كونها توجيهًا فقهيًا لتتحول إلى إطار مؤسسي متكامل يهدف إلى نقل الزكاة من ممارسة فردية إلى سياسة عمومية تسعى إلى تحقيق التكافل الاجتماعي والعدالة الاقتصادية، من داخل المرجعية الدينية الموحدة لإمارة المؤمنين. إنها خطوة تؤسس لمرحلة جديدة في تفعيل فريضة الزكاة باعتبارها أداة تنموية قادرة على إعادة التوازن بين القيم الدينية والاحتياجات الاجتماعية، في انسجام مع الرؤية المغربية القائمة على الجمع بين الأصالة والتحديث.
 
تتجلى الرؤية الملكية لهذا التحول من خلال أبعاد متكاملة يجتمع فيها الإصلاح الديني بالتحديث المؤسساتي والسياسة العمومية. فمن الناحية الدينية، جاءت الفتوى لتجديد الفقه المالكي وتكييفه مع التحولات الاقتصادية الحديثة، مثل الاقتصاد الرقمي والمهن الحرة والاستثمارات المعاصرة، بما في ذلك الأنصبة المرتبطة بالأنعام والمنتوجات الفلاحية والصيد البحري والمداخيل المهنية. هذا التحديث الفقهي يعكس إرادة في جعل الزكاة ممارسة معاصرة تستجيب لتنوع مصادر الدخل الحديثة وتحقق مقاصد الشريعة في العدالة والتكافل. أما على المستوى المؤسساتي، فتعمل التوجيهات الملكية على إحداث منصة إلكترونية وطنية متخصصة في شؤون الزكاة، تسهّل تبسيط المعارف الشرعية، وتوسع دائرة الوعي المجتمعي، وتضمن الانتقال من العمل الفردي إلى التنظيم المؤسسي الشفاف القادر على بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة. ويأتي البعد السياسي والمرجعي ليؤكد دور إمارة المؤمنين باعتبارها الجهة الشرعية العليا والضامنة لوحدة الفتوى والأمن الروحي، بما يمنع التوظيف الحزبي أو الفئوي لهذه الفريضة، ويؤمن استقلالية الأجهزة التنفيذية ضمن الإطار المرجعي الجامع.
 
ومع وضوح هذه الرؤية، يظل التفعيل العملي للزكاة تحديًا متعدد الأبعاد. فالإشكالية الفقهية والاقتصادية تتعلق بضرورة إيجاد صياغة موحدة تراعي تعقيدات الاقتصاد الحديث وتُيسّر تطبيق الزكاة على الأموال النامية بمعدل 2.5% من قيمتها، وهو ما تشير الدراسات إلى أنه يمكن أن يولد موارد تتجاوز عشرين مليار درهم سنويًا، تساهم في تخفيف الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية. أما الإشكالية القانونية والضريبية فتتصل بالحاجة إلى إطار قانوني يحدد بوضوح العلاقة بين الزكاة والضريبة، من خلال نموذج تكاملي يسمح بخصم جزء من الزكاة من الوعاء الضريبي، مع اعتماد إعفاءات مدروسة للمقاولات الصغرى والمتوسطة لتحفيز الالتزام الطوعي. وفي المقابل، تبرز الإشكالية المؤسساتية المرتبطة ببناء الثقة، إذ أظهرت التجارب السابقة مثل تجربة الصندوق الوطني للزكاة أن الشفافية شرط جوهري لنجاح أي مبادرة، ما يستدعي إنشاء هيئة وطنية مستقلة للزكاة تخضع لمراقبة المجلس الأعلى للحسابات وتتيح مشاركة المجتمع المدني في التتبع والتقييم ضمانًا للنزاهة والمحاسبة.
 
وفي أفق بلورة النموذج المغربي، يمكن استلهام دروس التجارب الدولية الناجحة. فالنموذج الماليزي يُعد من أكثر الأنظمة تكاملًا وكفاءة بفضل اعتماده الواسع على الرقمنة والحوكمة، وإن كان يقتصر في تطبيقه على المسلمين فقط. أما النموذج السوداني فيبرز أهمية الرقابة المستقلة والشفافية، رغم ما واجهه من صعوبات في الجباية، في حين يكشف النموذج الإندونيسي عن ضرورة وضوح الهيكل التنظيمي وتفادي تعدد الجهات المشرفة، بعدما أظهرت التجربة أن اللامركزية غير المضبوطة قد تؤدي إلى التشتت وضعف الفعالية. هذه النماذج تبيّن أن نجاح مأسسة الزكاة رهين بتوحيد المرجعية وحسن الحكامة وتكاملها مع السياسات الاجتماعية والاقتصادية، ضمن رؤية تنموية شاملة تجعل الزكاة جزءًا من المنظومة الاقتصادية الوطنية لا مجرد عبادة فردية.
 
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يبدو أن التحول من الزكاة كصدقة فردية إلى أداة تنموية وطنية يقتضي تصورًا مؤسساتيًا مغربيًا يقوم على حكامة رشيدة وإدارة شفافة. ويمكن أن يتمثل ذلك في إنشاء مجلس وطني للزكاة يضم تمثيلاً جهوياً وهيئات تنفيذية ولجان متابعة، بما يضمن المشاركة الواسعة واتخاذ القرارات المستنيرة، إلى جانب تطوير منصة إلكترونية متكاملة توفر فضاءً موحدًا للتواصل مع المواطنين، وتقديم الاستشارات، وتلقي الأسئلة، وعرض البيانات الدقيقة حول عمليات الجباية والتوزيع. كما يمكن اعتماد آليات تحفيزية من قبيل الإعفاءات الضريبية التدريجية للمزكين وإشراك القطاع الخاص في مبادرات جمع وتوزيع الزكاة، مع فتح المجال لشراكات دولية لتبادل الخبرات في مجالات الحوكمة الرقمية والتمويل الإسلامي، بما يعزز موقع المغرب كنموذج رائد في توظيف القيم الدينية لخدمة التنمية المستدامة.
 
إن إعادة تفعيل الزكاة في المغرب، في ضوء الفتوى الشاملة والتوجيه الملكي، تمثل لحظة تاريخية تتجاوز بعدها الديني إلى أفق تنموي واستراتيجي جديد. فهي ليست فقط استعادة لركن من أركان الإسلام، بل تأسيس لرافعة اقتصادية واجتماعية يمكن أن تسهم في بناء نموذج تنموي مغربي يوازن بين العدالة الاقتصادية والهوية الروحية. ولعل نجاح هذه التجربة رهين بتدرج التطبيق وفق رؤية مرحلية تبدأ بجهات نموذجية، وبسن إطار قانوني واضح، وتفعيل آليات حكامة فعالة. وعندما تتحول الزكاة إلى ممارسة مؤسسية شفافة وفاعلة، فإنها ستغدو أداة قوية لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز التضامن الوطني وصيانة القيم الأصيلة التي تشكل جوهر المجتمع المغربي، في انسجام تام مع مقومات إمارة المؤمنين ورؤية الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.