Sunday 22 June 2025
سياسة

ندوة العيون.. بوبكر حمداني يقارب مبادرة الحكم الذاتي المغربية في إطار القانون الدولي

ندوة العيون.. بوبكر حمداني يقارب مبادرة الحكم الذاتي المغربية في إطار القانون الدولي بوبكر حمداني

على هامش الندوة التي نظّمتها المجموعة الموضوعاتية المؤقتة المكلفة بتقديم الاستشارة حول القضية الوطنية الأولى للمغرب: قضية الوحدة الترابية، بمدينة العيون يوم السبت 21 يونيو 2025 تحت شعار: "من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل"، ألقى مولاي بوبكر حمداني، رئيس مركز التفكير الاستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، مداخلة تحت عنوان: "المبادرة المغربية للحكم الذاتي في ضوء القانون الدولي: منطلقات سيادية ورؤية متقدمة لحل النزاعات الترابية والمساهمة في تعزيز السلم والاستقرار في إفريقيا".
جريدة
"أنفاس بريس" تنشر المداخلة الكاملة لمولاي بوبكر حمداني.

 

السيدات والسادة الحضور الكريم، كلٌ باسمه وسمته وصفته، مع وافر التقدير والاحترام لشخصه الكريم،

أسعدني اليوم ويشرفني أيما تشريف مشاركتكم في أشغال هذه الندوة الوطنية "قضية الوحدة الترابية للمملكة من شرعية التاريخ إلى رهانات المستقبل" المنعقدة في رحاب مدينة العيون، هذه المدينة التي لا تُشكل مجرد نقطة جغرافية على الخريطة، بل هي قلب ينبض بالتنمية والأمل، وبوابة المغرب الاستراتيجية نحو عمقه الإفريقي، وتجسيد حي لمصداقية المقاربة المغربية الشاملة في التنمية المتوازنة والتعاون البنّاء جنوب-جنوب، وهي المقاربة التي سطر معالمها ورسخ دعائمها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
ولابد أن نشكر القائمين على تنظيم هذه الندوة الوطنية على حسن التنظيم والاستقبال، كما نشكرهم على انتقاء مثل هذا الموضوع لما له من أهمية فائقة. وبعد واجب الشكر أقول إنني سوف أتناول في مداخلتي اليوم موضوعًا يقع في صميم التقاطعات الجدلية للقانون الدولي المعاصر، وفقه تسوية النزاعات، ونظريات أشكال الدول، وهو: "المبادرة المغربية للحكم الذاتي في ضوء القانون الدولي: منطلقات سيادية ورؤية متقدمة لحل النزاعات الترابية والمساهمة في تعزيز السلم والاستقرار في إفريقيا".

إن مفهوم "الحكم الذاتي"، الذي يمثل حجر الزاوية في هذا الطرح، قد شكّل على مر العقود مجالًا خصبًا للاجتهاد الفقهي والجدل المفاهيمي، ففي أدبيات القانون الدولي المقارن، يُعرَّف الحكم الذاتي في أبسط صوره بأنه تلك السلطة القانونية التي تمكّن جماعة معينة، ذات خصوصية إثنية أو لغوية أو جغرافية، من أن تتمتع بشخصية اعتبارية قانونية خاصة، وتدير شؤونها الداخلية عبر مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية خاصة بها، وذلك ضمن الإطار السيادي للدولة الأم.
بيد أن هذا التقعيد الأولي لا يلبث أن يفتح الباب أمام إشكاليات نظرية جوهرية: فمثلًا أين تقع الحدود الفاصلة بين الحكم الذاتي كشكل من أشكال اللامركزية السياسية المتقدمة وباقي أشكال التدبير المحلي أو الإداري؟ وكيف يمكن تحقيق التوازن الدستوري الدقيق بين الحق في الإدارة الذاتية، الذي يُعد شكلاً من أشكال "تقرير المصير التوافقي الداخلي"، وبين مبدأي سيادة الدولة ووحدتها الترابية، وهما من المبادئ الراسخة التي يقوم عليها النظام الدولي برمته؟

حضرات السيدات والسادة،
لقد مرّ مفهوم الحكم الذاتي بتحولات دلالية كبرى، فبعد أن كان يُنظر إليه في حقبة ماضية، خاصة في سياق ما بعد الاستعمار، بريبة شديدة باعتباره مقدمة حتمية للانفصال أو "منحدرًا زلقًا" يهدد مبدأ (الحفاظ على الحدود الموروثة)، أصبح اليوم، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة وصعود سياسات الهوية، يُعتبر أداة متقدمة وفعالة في هندسة السلام وإدارة التنوع في المجتمعات المركبة. فهو لم يعد مجرد خيار ثانوي، بل نهج مفضل في القانون الدولي لتسوية النزاعات ذات الخصوصيات الجغرافية والثقافية والإثنية التي لا تجد لها حلاً في الأطر الكلاسيكية.
ومن هذا المنطلق، ننتقل الآن لنتناول حالة دراسية تجسد هذا التطور المفاهيمي والعملي بامتياز، ألا وهي "المبادرة المغربية للتفاوض بشأن نظام للحكم الذاتي لجهة الصحراء"، فهذه المبادرة التي قدمتها المملكة المغربية عام 2007 لا تمثل مجرد مقترح سياسي ظرفي، بل هي صرح قانوني متكامل يستجيب للدعوات المتكررة لمجلس الأمن الدولي لإيجاد "حل سياسي، واقعي، عادل، دائم ومبني على التوافق"، ويقدم رؤية حديثة لحل نزاع طال أمده، عبر آلية ديمقراطية تهدف إلى تحقيق توليفة خلاقة بين تطلعات السكان المحليين ومتطلبات السيادة الوطنية.
ولفهم العمق الاستراتيجي لهذه المبادرة وأصالتها التشريعية، لا بد من وضعها في حوار مقارن مع أبرز الممارسات الفضلى والنماذج الدولية الرائدة. فهذا الحوار النقدي ليس غاية في ذاته، بل وسيلة تكشف لنا كيف أن المبادرة المغربية استلهمت من حكمة هذه التجارب، لكنها في الوقت نفسه قدمت حلولًا مبتكرة تتناسب مع الخصوصية التاريخية والجيوسياسية للقضية، مما يجعلها نموذجًا جديرًا بالدراسة.
فإذا انطلقنا من الأساس القانوني والإطار السيادي نجد أن المبادرة المغربية ترتكز على رؤية متوازنة ومتكاملة؛ فهي من جهة حل سياسي يستجيب لمتطلبات الشرعية الدولية، ويضع نفسه ضمن منطوق وقرارات مجلس الأمن، ومن جهة أخرى تؤكد بشكل قاطع وجازم على أن هذا الحل يندرج ضمن سيادة المملكة ووحدتها الترابية الوطنية، التي لا تقبل المساومة أو التجزئة. هذا التوازن الدقيق، الذي يُقترح تفعيله عبر استشارة ديمقراطية للسكان المعنيين بموجب (المادة 27)، ثم تحصينه في المبادرة عبر تعديل دستوري يدمجه في المنظومة القانونية للمملكة، مما يضعها في قلب الممارسات الدستورية الحديثة التي تسعى للتوفيق بين الالتزامات الدولية والسيادة الوطنية.

وبداية في نظرة سريعة على بعض التجارب الدولية للحكم الذاتي نجد حالة جزر آلاند الفنلندية التي أسست حكمها الذاتي على ضمانة دولية مصدرها قرار من عصبة الأمم عام 1921 أُرسيت بموجبه مبادئ أساسية لا تزال قائمة حتى اليوم، وهذه الضمانة منحت نظام الحكم الذاتي في آلاند حصانة شبه مطلقة، حيث لا يمكن للبرلمان الفنلندي تعديل قانونه الأساسي دون موافقة صريحة من برلمان آلاند المحلي، كما أن وضع الإقليم كمنطقة منزوعة السلاح ومحايدة هو التزام دولي على فنلندا، مما يجعل من هذا النموذج حالة خاصة جدًا في القانون الدولي.
وإن اتجهنا شمالًا إلى مقاطعة بولزانو أو جنوب تيرول الإيطالية (ألتو أديجي)، نرى أن شرعيتها مستمدة من اتفاق ثنائي ذي بعد دولي، وهو اتفاق "غروبر-دي غاسبيري" الملحق بمعاهدة السلام بباريس عام 1947. هذا الاتفاق جعل من النمسا هي "الدولة الأم" (l'Etat-parent) أو "الدولة الحامية" لحقوق الأقلية الناطقة بالألمانية، حيث مُنحت فيينا حق التدخل دبلوماسيًا لدى روما لضمان احترام وتطبيق بنود الحكم الذاتي. هذا النموذج يوضح كيف يمكن لاتفاق دولي أن يكون هو الضامن لاستقرار حكم ذاتي داخلي.
أما في الجارة الشمالية إسبانيا، فالأساس هو دستوري داخلي بحت، يجسده دستور 1978 الذي يعتبر تحفة في الهندسة الدستورية، فالمادة الثانية منه توازن ببراعة بين "الوحدة غير القابلة للتجزئة للأمة الإسبانية"، وبين "الاعتراف وضمان الحق في الحكم الذاتي للقوميات والأقاليم" التي تتكون منها. هذا النظام، المعروف بـ "دولة الجهات المستقلة" هو نظام مفتوح وغير متماثل (Autonomie asymétrique)، سمح بتطور نماذج حكم ذاتي غير متماثلة في عمقها ومختلفة في صلاحياتها. فالدولة في هذا النظام تضع "القانون الإطار" أو "القواعد الأساسية" في مجالات مثل الصحة والتعليم، وتقوم الجهات خاصة التاريخية منها ككتالونيا والباسك، بتطوير هذه القواعد تشريعيًا وتنفيذها بما يتناسب مع خصوصياتها.
وعبر الأطلسي نجد كيبيك الكندية تخضع لنظام ضمن بنية فيدرالية أصيلة حيث السيادة مقسمة دستوريًا منذ نشأة الاتحاد الكندي بموجب "قانون أمريكا الشمالية البريطانية" لعام 1867، فالمقاطعات ومنها كيبيك، ليست كيانات مُنحت سلطات من المركز، بل هي كيانات ذات سيادة أصلية في مجالات اختصاصها المحددة دستوريًا، وتشارك في تعديل الدستور الفيدرالي.
وأخيرًا في المملكة المتحدة، نجد نظام "التفويض" أو ما يعرف بنظام "الصلاحيات المحجوزة أو المحفوظة"، الذي يقوم على مبدأ السيادة البرلمانية، إذ أن البرلمان البريطاني يحتفظ بالسيادة المطلقة ولكنه يفوض سلطات تشريعية وتنفيذية إلى المؤسسات المحلية أو الإقليمية (أسكتلندا، ويلز، أيرلندا الشمالية)، مع إمكانية استرجاع هذه الصلاحيات أو تعديلها بقرار برلماني. هذا النظام يعكس مرونة وتكيفًا فريدًا في التعامل مع مطالب الحكم الذاتي.

وفي ضوء هذا الاستعراض المقارن يمكننا أن نفهم بوضوح كيف أن المبادرة المغربية للحكم الذاتي لجهة الصحراء المغربية هي مشروع متكامل ومستوحى من تجربة قانونية وسياسية عميقة، تستجيب لكل متطلبات القانون الدولي، وتحترم في نفس الوقت وحدة المغرب وسيادته، وتؤسس لممارسة سياسية ديمقراطية حقيقية في إقليم له خصوصياته التاريخية والجغرافية.
ولعل أهم ما يميز هذه المبادرة هو أنها:

  • تنطلق من كون الصحراء المغربية جزء لا يتجزأ من التراب الوطني

  • تؤكد على وحدة المغرب وسيادته، مع فتح باب المشاركة الديموقراطية لسكان الأقاليم الجنوبية

  • تدمج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسكان المنطقة في إطار الحكم الذاتي

  • تنادي بحل النزاع عبر الحوار والوسائل السلمية، بعيدًا عن كل أشكال العنف أو التوترات الأمنية

  • تساهم في ترسيخ الاستقرار والسلم في المنطقة الإفريقية بشكل عام، لأن الحلول الاستثنائية للنزاعات الإقليمية تعزز من أجواء التعاون الإقليمي والتكامل جنوب-جنوب.

ختامًا، أود أن أؤكد أن النجاح في تنفيذ هذه المبادرة، يستدعي جهودًا وطنية مشتركة، صادقة، ومتواصلة، وتعزيز التعاون الدولي مع مختلف الفاعلين، وكذلك إشراك المجتمع الدولي والمجتمع المدني في متابعة التطبيق وضمان احترام حقوق الإنسان.
إنها فرصة تاريخية لا تعوض لنثبت للعالم أن المغرب يملك رؤية متقدمة، قائمة على الالتزام بالقانون الدولي، وعلى إحراز السلام والاستقرار، وعلى التنمية المتوازنة التي تحفظ كرامة الإنسان وتحقق العدالة الاجتماعية، كل ذلك من خلال ترسيخ الوحدة الوطنية في إطار السيادة التي لا تقبل المساومة.

 

شكرًا لكم على حسن الاستماع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.