كانت القراءة والكتابة بالنسبة له طريق خلاص ومعنى وجود. نشأ في بيئة ريفية فقيرة في الذهيبيات (القيروان)، بعيدًا عن المدن الكبرى ومكتباتها، لكنّه اكتشف الكتاب باكرًا، فانفتح له عالم بديل عن القسوة والعزلة والتقشف الذي عاشه في طفولته.
في مقال له بعنوان “القراءة ضد القبح”، كتب المصباحي: “الكتب أنقذتني من الجهل والوحشة، وجعلتني أؤمن أن في هذا العالم ما يستحق الحياة، حتى ولو لم يكن مادياً دائمًا”
وفي كتاباته، تظهر القراءة كفعل مقاومة، كتحصين للذات ضد التلاشي، ضد الاستلاب، وضد الخضوع. كان يقرأ بنهم، ليس ليكتب فقط، بل ليعيش أكثر من حياة، ويقاوم العبث والخواء الذي كثيرًا ما صوّره في رواياته.
حسونة المصباحي لم يكن كاتبًا قارئًا فقط، بل كان ابنًا للقراءة… وابنًا مخلصًا لها حتى اللحظة الأخيرة.
في اللقاء الاخير الذي أقمناه معه منذ سنتين تقريباً وفيه احتفينا بتجربته الخاصة في كتابة البورتريه الأدبي،تحدث عن القراءة وعمل جمعية عشاق الكتب بسوسة قائلاً :
أنا دائمًا أشعر بالسعادة عندما أحل بينكم، أنتم شباب رائع يبعث على الأمل. في ظل ما يروج الآن عن موت الكتاب أو اختفاء القراء، أعتقد أن الكتاب لن يموت وسيبقى حيًا رغم مزاحمة التكنولوجيا له. الكتاب هو قرين وجود الإنسان، ولد مع آدم وحواء بحسب سفر التكوين كما في الكتب السماوية، وأغاني البحارة على اليابسة أو في البحر.
وبعدئذٍ في الأوديسة التي يذهب فيها أوليس في رحلة عجيبة إلى البحر ليواجه مخاطر كثيرة، كالموت. كيف أن الإنسان يمتحن مصيره، هذا هو الدرس العظيم. ثم يعود فلا يتعرف إليه أحد من أهله إلا كلبه أرغوس، حيث لا يمكن لأي إنسان أن يمنع دمعه من أن يترقرق وهو يقرأ تلك النهاية العظيمة. وبينلوب زوجته التي ظل الخطاب ولعشرين عامًا يتردد عليها من أجل الظفر بها، وهي تقول لهم عند الانتهاء من خياطة هذا القميص سأزوج أحدكم، وفي الليل كانت تمزق ما كانت قد خاطته في النهار، وهكذا ظلت تنتظر زوجها.
لذة قصة مثل هذه القصة لم يعد بإمكاننا إيجادها في ظل التكنولوجيا، وهي كل ما يحتاجه الإنسان. فعندما يحس الإنسان أنه ضائع وليس له شيء يحميه، لا في السماء ولا في الأرض، فلن يجده إلا في الكتاب. أنا شخصيًا كقارئ صرت في الفترة الأخيرة أعود لقراءة كتب كنت قد قرأتها من قبل، ووجدت نفسي وكأني لم أقرأها، لأنني صرت أعيش أشياء جديدة أكتشفها الآن، ليست مثلما كنت قبل ثلاثين سنة، أو قبل عشرين، أو حتى قبل عشر سنوات. الآن أكتشف نفسي من جديد من خلال الكتاب.
الكتاب هو مرآتي، c’est l’alter ego الذي أرى فيه نفسي. لم أرَ نفسي في البرامج أو في السياسة أو في الأحزاب أو في الأيديولوجيات. هذا يساري وهذا قومي، وهكذا. الكتاب بعيد عن هذا، الكتاب يحدد مصيرك ويجردك من الانفعالات، على عكس الأيديولوجيا التي قوامها معادلة “أنت معي أو ضدي”، أنت ماركسي أو لست صديقي. في الكتاب لا تجد إلا الحيادية، أنت عندما تقرأ فأنت تقرأ من أجل لذتك الشخصية.
أنا دائمًا سعيد برؤية هذه الأزهار الشابة أمامي وهي تُقبل على القراءة. وقد كنت مع فارس الشوك وهو شاب وكان يحدثني عن الكتاب، وقد أسعدني ذلك كثيرًا. والبارحة في العاصمة تونس، قدمت محاضرة عن الفلسطيني إميل حبيبي، وكان الحضور من الشباب، وهو شيء مفرح في تونس التي لم يعد فيها فرح كما يقول الكثيرون، ولكن هناك الفرح عندما ترى أن الشباب لا يزال يرى أن الكتاب حي مدام الإنسان حيًا.
جمعية عشاق الكتب بسوسة - تونس