أصدر عبد الرحمان حداد، أستاذ باحث بجامعة مولاي اسماعيل بمكناس، مؤخرا مؤلفا جديدا بعنوان "الانتماء الترابي في أفق مواطنة محلية " ، قدم من خلاله رؤية شاملة ومبتكرة حول كيفية بناء روابط أقوى بين المواطنين ومجالهم الترابي، وكيف يمكن لهذه الروابط أن تسهم في تحقيق تنمية تشاركية تضع المواطن في صلب العملية التنموية.
ويسلط الكتاب الضوء على مجموعة من المحاور المهمة، مثل التحديات التي تواجه السياسات المحلية في تعزيز الانتماء لدى المواطنات والمواطنين، والأسس التي يمكن من خلالها بناء هوية ترابية مشتركة، بالإضافة إلى دور المؤسسات والسياسات العمومية في دعم هذا الانتماء. كما يستعرض المؤلف مقاربات نظرية وعملية تستند إلى دراسات ميدانية وتجارب دولية، مما يجعل الكتاب مرجعا مهما للباحثين والمختصين في المجالات القانونية والاجتماعية والسياسية.
" أنفاس بريس" التقت بمؤلف الكتاب، فكان معه الحوار التالي:
التراب أو المجال المحلي وكما أشرت في مؤلفك الأخير " الانتماء الترابي " ليس مجرد إطار للتدبير الإداري؛ بل بإمكانه أن يشكل مجالا لطرح العديد من القضايا المجتمعية وأن يفتح قنوات للنقاش العمومي. كيف ذلك في نظركم؟
في الحقيقة، عديدة هي الأبحاث والتقارير والدراسات التي أعلنت حلول عصر التراب Le territoire، منطلقة في ذلك من أزمة الدولة الوطنية من جهة ومن عولمة الاقتصاد من جهة أخرى. وهو الشيء الذي جعل الأسئلة الأساسية اليوم تطرح على المجال المحلي، كما أن أجوبتها المفترضة يتم استلهامها وتدبيرها على نفس المستوى. إعادة الاعتبار إلى المستوى الترابي المحلي من شأنه أيضا أن يسهم في بعث الروح في تمرين ديمقراطي اتضح مع مرور الوقت أنه استهلك مقومات مشروعيته ولم يعد قادرا على ضمان استمرارية التعاقد الاجتماعي، باعتباره ضمانة للاستقرار والسلم الاجتماعي وشرطا أساسيا لسؤال التنمية. فإذا جازفنا باختصار هذا التمرين في أهم ركائزه، فيمكن القول إنه هو ذلك الذي يسمح للمواطنات والمواطنين بالمساهمة في القرار السياسي وفي الولوج إلى المعلومة والقدرة على المحاسبة. ومن الواضح أن هذه القواعد تتحقق بشكل أكبر كلما قلت المسافة بين طرفي الممارسة السياسية، أي الناخبين من جهة والمنتخبين من جهة أخرى.
ينتصب المجال المحلي أيضا كحاضنة مثالية لآليات الديمقراطية التشاركية، من حيث هي، ليست بالضرورة تعبيرا عن أزمة الأساليب السياسية الحالية، وإنما أيضا نتاج لوعي مجتمعي متصاعد ساهم في انبثاقه والترافع من أجل ترسيخه فعل مدني مؤسس في شكل تنظيمات وشبكات جمعوية مختلفة. من هذا المنطلق، قد تبدو ديمقراطية التراب بمعنى من المعاني عودة إلى الأصول الديمقراطية في تجلياتها الأثينية، والتي تحول المدينة إلى نوع من الأكورا الحديثة. فوحده المستوى المحلي الأكثر قابلية لمشاركة الناس في تصور وإعداد وتقييم السياسات العمومية وفي وضع البرامج والميزانيات.
لا يشكل التراب المحلي مجرد إطار للتدبير الإداري، المؤطر من خلال القوانين، بل هو أكثر من ذلك، إذ بإمكانه أن يشكل مجالا لطرح العديد من القضايا المجتمعية، أن يفتح قنوات للحوار العمومي، أن يشكل فضاء لإيجاد الأجوبة وأيضا لتفعيلها والالتزام بها. ويمكن أن ينطبق ذلك على العديد من الملفات والأسئلة الجماعية، بدءا بنظافة المجال وفرز النفايات إلى مقاربة النوع والمساواة وتدبير المرافق العمومية وتحديد وتقييم السياسات، مرورا بمشاكل السير والنقل العمومي والتنشيط السوسيوثقافي وتأسيس علاقة جديدة مع مؤسسات الدولة والمجالس المنتخبة.
هناك العديد من الآليات التي يمكن أن تشكل رافعة لهذا الشعور بالانتماء وعلى رأسها الرياضة والممارسات الثقافية ومجالس الأحياء والمقاربة التشاركية في المؤسسات التعليمية. يحمل هذا الانتماء طابعا بيداغوجيا تربويا. ففي مدينة ليفربول الإنجليزية، لم تعد أغنية "لن تسير لوحدك أبدا" الشهيرة، (You will never walk alone) مجرد شعار غنائي للنادي الأحمر العريق، بل أضحت رمز وحدة اجتماعية وتعبيرا عن احتفاء جماعي وعن انتماء وهوية. ناهيك عما تحبل به الأغنية نفسها من معاني الأمل والتفاؤل والغد المشرق.
هذا التمثل قد يسقط في الطوباوية والنوستالجيا ويحول شعور الانتماء إلى مجرد منصة لقذف المدبر العمومي ورجمه بالغيب إذا لم ترافقه سياسات عمومية تستجيب للحد الأدنى من الانتظارات المجتمعية وتشرك المواطن في اختيارها، عبر انتخابات دورية سليمة ومشاورات مباشرة معه. الانتماء الترابي لا يمكن أن يتناسى أسئلة الهشاشة والعدالة الاجتماعية والفوارق المجالية والولوج إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل المواطنين وفي مختلف المناطق. الانتماء الترابي هو أيضا مدخل لقيم العدالة المجتمعية والمساواة والتمكين.
هناك من يقول أن النخب المحلية لازالت بحاجة إلى تأهيل من أجل مواكبة المستجدات الدستورية والقوانين ومن أجل الاضطلاع بدورها في الاستجابة لحاجيات المواطنين كما هي مسطرة في القوانين التنظيمية، ما رأيك؟
مسألة التكوين وتقوية القدرات التدبيرية لا تطرح فقط بالنسبة للمنتخبين المحليين بل هي حاجة ملحة في كل القطاعات وأولوية استراتيجية. وبالنسبة للجماعات الترابية، فإن مسألة الرفع من القدرات صارت تطرح بكثير من الإلحاح بالنظر إلى ما حفل به الدستور ومن بعده القوانين التنظيمية من توسيع لأدوار الفاعل المحلي ومن تجديد لطرائق التدبير من منظور مقاولاتي استراتيجي. في هذا الباب، يجب التحذير من الوقوع في منظور قدحي للمنتخب المحلي. فالقانون، وهذا اختيار المشرع نفسه، لم يفرض أي مستوى دراسي أو تعليمي للترشح للانتخابات المحلية أو حتى رئاسة المجلس المحلي. هذا الاختيار إذا كان يحمل توسيعا للمشاركة الديمقراطية فيجب مواكبته برفع قدرات المنتخبين. وهي مسؤولية تتقاسمها الدولة والجامعة وأيضا الأحزاب السياسية.
ماهي مداخل بناء انتماء ترابي يتجاوز " القيد الانتخابي " إلى المشاركة المواطنة في عملية التنمية المحلية والديمقراطية ؟
الانتماء الترابي هو أساسا ذلك الانتقال من وضعية الساكنة ومن حالة المرتفق إلى حالة المواطنة. فالساكنة تفترض الوجود الجغرافي والاستفادة من الخدمات الإدارية، أما المواطنة فهي شعور بالانتماء والمشاركة لصون هذا الانتماء. الساكنة تقوم على مقاربة الحاجة، ولا تشكل السياسات العمومية إلا محاولة لا تحظى بالإجماع للاستجابة لهذه الحاجيات. أما المواطنة فتقوم على مقاربة الحق في الخدمات العمومية، ومن هنا يصبح من اللزوم إعطاء السياسات العمومية بعدا تشاركيا من حيث تحديد الحاجيات كما من حيث تدبير هذه السياسات وتقييمها.
لقد هيمنت الجغرافيا طويلا، جغرافيا يحكمها هاجس الضبط والأمن وتحددها توازنات السياسة. ربما آن الأوان لتسود المواطنة. هي ليست مقابلة أو تناقضا، بقدر ما هي انتقال من حالة التدبير الإداري العمودي، الذي لم تنجح مختلف الإصلاحات المتعلقة بالجماعات المحلية في تنسيبه، إلى مشاركة حقيقية للناس في رسم معالم عيشهم المشترك على ترابهم المشترك. تشكل مسألة الارتباط الحلقة المفقودة في هذا التحول والتي تعيق أجرأته وتحويله إلى واقع معيش. والحقيقة أنه حتى الآن، فإن الشكل الوحيد للانتماء الترابي الذي أفرزته مختلف التطورات التي عرفتها اللامركزية هو الانتماء الانتخابي، وهو ما كانت له انعكاسات في شكل أعطاب حالت وتحول دون ترسيخ الفعل الترابي المحلي. مما يقتضي البحث عن مداخل لانتماء جديد يكرس لمواطنة محلية فاعلة.
إن غرس آليات للتشاور والمشاركة المباشرة في تدبير الشأن العام المحلي لم يكن الغرض منها، ولا يجب أن يكون الغرض منها، تعويض المؤسسات المنتخبة أو التضييق على عملها وإفراغ اختصاصاتها التي أوكلها إليها المشرع من كل محتوى. فالديمقراطية التشاركية ليست بديلا عن الديمقراطية التمثيلية. إقرارها هو في الحقيقة محاولة لإثراء الفضاء العمومي وردم أو على الأقل تضييق للفجوة بين المواطن والمؤسسات، ونوع من المصالحة مع السياسة، أي مع الشأن العام. لكن ذلك لا يعني بالمقابل تهميش الآليات التشاورية والتشاركية سواء بالإحجام عن تأسيسها أو تأخيره المتعمد، أو تقزيم أدوارها والتحكم في تكوينها وتسييرها.
لم يأت تبني المشرع لآليات الديمقراطية التشاركية لتكون بديلا عن آليات الديمقراطية التمثيلية. كما أن استمرار هذه الأخيرة لا يمكن أن يعني الاستفراد بالقرار وسد الباب أما الاستفادة من الطاقات المدنية التي يحفل بها الحقل الجمعوي والتي يمكن أن تقدم الإضافة، اقتراحا وتتبعا وتقييما وترافعا. من هنا لا بد من التفكير في تعاون صحي وسليم بين النموذجين، لا يؤدي إلى تقزيم أي منها. لكن المسألة لا تنحصر في مجرد إضافة بعض البهارات التشاركية للطبق الديمقراطي. بل الأمر أعمق من ذلك بكثير. فهو من جهة يقتضي إعادة الروح والجاذبية للمؤسسات التمثيلية وللممارسة الانتخابية، ومن جهة أخرى، إرساء مقاربة تشاركية من خلال آليات تشاور ومشاركة أكبر من أن تلعب دور المسكّن. يتعلق الأمر بمصالحة المواطن مع الشأن العام، لكن الصيغ التشاركية المطروحة على الطاولة، أو على الأقل تدبيرها الحالي وممارستها، لا يبدو أنها ستشكل وسيلة وفضاء لهذه المصالحة المنشودة.