في زمن الأزمات، حيث لا يكاد يمر يوم دون أن تضاعف الأسعار من وطأة الفقر على الأكتاف المثقلة، لم يعد الحديث عن ارتفاع أسعار اللحوم مجرد نقاش اقتصادي عابر، بل أصبح معاناة يومية يواجهها المواطن المغربي.
وفي إمزورن، كما في مدن أخرى، تكشف الأحداث عن حجم الفجوة التي تنمو بين المواطن وواقعه: مبادرة خاصة لدعم اللحم و انخفاض سعره من 90 درهمًا إلى 50 درهمًا أدى إلى نفاد الكمية في أقل من ساعة، ما يعكس بشكل فاضح التدهور الكبير في القدرة الشرائية للمواطنين في ظل غلاء غير مسبوق وتجاهل حكومي لا يولي الأمر اهتمامًا جادًا.
تراجع القطيع الوطني... الأزمة في جذورها
لم يكن الوضع ليصل إلى هذا الحد لولا تضافر عوامل كثيرة، أبرزها سنوات من الجفاف المتتالية، وآثار أزمة كورونا التي ما زالت تلقي بظلالها على الاقتصاد، بالإضافة إلى غياب سياسة فعّالة لدعم الفلاحين الصغار. فقد تقلص القطيع الوطني بشكل مقلق نتيجة لتخلي الحكومة عن دعم الفلاحين الصغار في مواجهة ارتفاع أسعار الأعلاف، وهو ما دفع بالكثيرين إلى التخلي عن تربية المواشي، مما أدى إلى نقص حاد في الإنتاج المحلي من اللحوم بالاضافة من مجوعة من الاشكاليات في حكامة بعض الجمعيات البيمهنية ذات الصلة (ربما سنتطرق إليها باسهاب في مناسبة اخرى). فبدلاً من أن تجد الحكومة حلاً جذريًا، استمرت الأسعار في الارتفاع بشكل مستمر، دون أفق للحد من الأزمة.
أين وعود أخنوش؟
عزيز أخنوش، رئيس الحكومة الحالية، الذي كان وزيرًا للفلاحة لسنوات، وأطلق العديد من الوعود لضمان الأمن الغذائي في المغرب، أطلق في وقت سابق مشروعات ضخمة مثل "المغرب الأخضر" و"الجيل الأخضر". لكن أين هي تلك الوعود اليوم؟ في وقت تُنفق فيه مليارات الدراهم على مخططات لم تحقق أي مردود إيجابي للمواطن، لم نرَ من هذه الوعود سوى أرقام كبيرة تُظهر فشلًا واضحًا في تحقيق التغيير المطلوب.
* مخطط المغرب الأخضر: 150 مليار درهم
* مخطط الجيل الأخضر: 110 مليار درهم
* صندوق التنمية القروية: 55 مليار درهم
* دعم محاربة آثار الجفاف: ما بين 3 و10 مليارات درهم سنويًا
هذه المبالغ الإجمالية تصل إلى 365 مليار درهم، أو أكثر من 36 ألف مليار سنتيم، صرفت باسم دعم الفلاحة. ورغم هذا، لا يزال المواطن المغربي يعجز عن شراء كيلوغرام واحد من اللحم، ويضطر إلى انتظار مبادرات خيرية لتلبية احتياجاته الأساسية، بالاضافة الى دفع المؤسسة الملكية في مواجهة مباشرة مع صغار الفلاحة إثر قرار جلالته بإلغاء شعيرة الذبح في عيد الاضحى المقبل.
فضيحة دعم استيراد المواشي
الأرقام التي تم صرفها لم تقتصر على ذلك. فحسب منابر اعلامية متعددة أشارت الى تخصيص الحكومة 1300 مليار سنتيم لدعم استيراد المواشي، استفاد منها فقط 18 شخصًا، بمعدل 73 مليار سنتيم لكل منهم. كان هذا الدعم مجرد توزيع للأموال العامة على قلة قليلة من المستفيدين، دون أن ينعكس بشكل إيجابي على أسعار اللحوم في الأسواق، بل ظل المواطن البسيط يعاني دون أي تحسن يذكر.
حكومة "الكفاءات"... وهم كبير!
عندما قدمت الحكومة نفسها على أنها حكومة "كفاءات"، كان من المتوقع أن تكون قادرة على تقديم حلول جذرية وواقعية للمشاكل التي يعاني منها المغاربة. لكن الحقيقة كانت مغايرة تمامًا، حيث أظهرت الحكومة أنها لم تكن سوى امتداد لسياسات الريع والمحاباة، التي تُضخ الأموال في جيوب قلة من الناس بينما يعاني الملايين في صمت. لم تكن هذه الحكومة قادرة على تقديم أي رؤية استراتيجية، بل إنها في معظم الأحيان كانت تتبنى حلولًا ظرفية غير مدروسة.
المسؤولية الأخلاقية والسياسية لرئيس الحكومة
من المؤسف أن يستمر الحديث عن المبادرات الخيرية كحلول مؤقتة في ظل غياب استراتيجيات شاملة لمعالجة الأزمة. وبالمقابل لا يمكن تبييض الوجه أو الهروب من المسؤولية الأخلاقية والسياسية عبر قفف جود الخيرية والتي لا ولن تفي بالغرض. فالمسؤولية تقع على عاتق الحكومة و رئيسها في توفير الأمن الغذائي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وبدلاً من التفرغ لتوزيع المساعدات في مناسبات معينة (قفف للتبييض السياسي مغلفة ظاهريا بالخير في شهر مبارك بريء منهم)، ينبغي أن تسعى الحكومة إلى إيجاد حلول جذرية تحسن وضع المواطن المعيشي، وتعيد التوازن للسوق المحلية.
إما حلول واقعية... أو انفجار اجتماعي!
ما يحدث في إمزورن ليس سوى نموذج صغير لما يحدث في باقي المدن المغربية. زيادة الأسعار أصبحت تهدد استقرار المجتمع بشكل أكبر من أي وقت مضى. وإذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه الأزمة، فسيكون ثمن ذلك باهظًا من الناحية السياسية والاجتماعية، وقد يصل الأمر إلى نقطة الانفجار، وهو ما لا تحمد عقباه.
إن الحلول الواقعية تبدأ بخطط مدروسة تدعم الإنتاج الوطني وتخفف من الضغط على المواطن المغربي. وإن كانت الحكومة عاجزة عن ذلك، فلا جدوى من استمرارها.