الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الرفيع حمضي: العشاء الأخير

عبد الرفيع حمضي: العشاء الأخير عبد الرفيع حمضي
روعة حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024 لم تنل منه أمطار أمسية الجمعة، التي انطلقت خفيفة وكلما كان الحفل يتقدم ويزداد تشوقا كانت الأمطار تتحول من قطرات إلى زخات فسيلان وكأنها مبرمجة سلفا لمواكبة العرض الرائع وغير المسبوق  في تاريخ هذه الألعاب .حيث لم تختر العبقرية الفرنسية، الملعب وممراته  لمشاركة 6800 رياضي من 205 دولة  بل اختارت نهر السين seine مع دمج أهم المعالم التاريخية الباريسية  لتقديم استعراضات ولوحات فنية فريدة وخالدة.

ونهر السين جغرافيا هو نهر طوله 775  كلم يقطع فرنسا من منبعه بمنطقة بوجني شرق البلاد ليصب في قناة بحر المانش غرب فرنسا.

لكن مادام "حتى زين ما نقصتو لولا "كما يقول مثلنا الشعبي المغربي فما إن انفض حفل الافتتاح والعالم لازال منبهرا برقي وجودة العرض حتى تحركت الأقلام وارتفعت أصوات دينية وأخرى سياسوية موجهة سهامها  لبعض فقرات الافتتاح  وخاصة ما اعتبر مس بالمسيحية من خلال لوحة محاكاة "العشاء الأخير"le dernier dîner  التي أبدعها الفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي سنة 1498 والموجودة حاليا بكنيسة سانتا ماريا ديلي غراسي بميلانو  والتي تجسد آخر وجبة ليسوع عليه السلام مع مريديه وتلامذته حيث قدم لهم خلاصة تعاليمه قبل أن يتم اعتقاله ومحاكمته وصلبه. وهو حدث شديد الأهمية إذ عليه أسس سر القربان في المسيحية.

فمحاكاة شخوص هذه  اللوحة  بنهر السين في حفل الافتتاح بإقحام المثلية ليس كاختيار شخصي لهوية جندرية ولكن كإيديولوجية لمعيرة المثلية اجتماعيا norme sociale.

ولعل هذا الأمر اخرج عددا من الكنائس التي أعلنت عن غضبها إضافة إلى عدد من السياسيين بالدرجة الأولى.
ومما لاشك فيه إن ازدراء الأديان، أمر مرفوض سواء تعلق الأمر بالمسيحية أو بغيرها مع العلم أن الإسلام ورموزه أصبح من أكثر الأديان التي تتعرض للإساءة في الغرب.

لكن ما أثار انتباهي وغيري فيما وقع هو تلك الردود الفعل الهادئة لكل المنتقدين وهم  يعبرون على استيائهم  لما حدث كما أن الجهة المنظمة لم تعاند وتتحدى "وتطلع الجبل" بل قدمت ما يكفي من الشروحات والسياقات وطبيعة العمل الفني مع الاعتذار لكل من شعر بالإساءة لمعتقده رغم أن القصد لم يكن هو الإساءة وبذلك أغلق الملف وانطلق الجميع يتمتع بالأولمبياد. لم يخون احد ولم يصلب احد ولم تشعل نيران ولم تخرق أعلام  ولم تقطع الطرقات فكم هو  جميل تدبير الخلاف بالحوار والإقرار والاعتذار .

مع الإشارة أن نهر السين نفسه الذي أعيد له الاعتبار اليوم كفضاء للفرح وليشهد العالم على ذالك لم يكن كذلك دائما.فالتاريخ شاهد ويسجل في يوم 1572/08/24م وقعت بباريس مذبحة القديس برثولماوس Massacre de la Saint-Barthélemy  حيث قام الجيش بأمر من ملك فرنسا شارل التاسع ووالدته كاترين دي ميديشي بإبادة كل المسيحيين المعتنقين للمذهب البروتستانتي، ويحصي المؤرخون أن عدد الضحايا تجاوز بكثير ثلاثين ألف .كلهم تعفنت جثثهم وتم قذفها بنهر السين الذي حملها إلى غاية  مصبه .
وألان هاهو النهر يعود إلى طبيعته منبعا للحياة وليس مصبا للموت.