مجلَّة "الجيش"، النَّاطق الرسمي باسم قيادة الجيش الجزائري، في افتتاحية عددها الأخير عرضت لمؤشِّرات "المكانة الدولية" للجزائر، تقول أنها كَمنت في ثلاث أحداث، "هامّة"، شهدتها الجزائر... أوَّلها، انعقاد مؤتمر الدول المُصدرة للغاز في الجزائر... وثانيها، تدشين أشغال فتح الطريق الرابط بين تندوف والزويرات في موريتانيا، بحضور الرئيس الموريتاني... وثالثُها، تدشين جامع الجزائر... ولكأن كاتب افتتاحية المجلة، شعر بضعف إمكانية استخراج مكانة وتأثير سياسي دولي للجزائر من تلك الأحداث... أضاف لها مؤشرا "بالغ الأهمية"، في رأيه، قرأه في زيارات الفريق أول رئيس أركان الجيش السيد سعيد شرنقريحة إلى كل من السعودية، رواندا وقطر. ونقلَ عنه قوله "بكون تلك الزيارات تعتبر مؤشرا جليا على طموح السلطات العليا، من أجل تعزيز آليات التعاون العسكري بيننا، وفرصة لتبادل وجهات النظر حول المسائل ذات الاهتمام المشترك"... هذا ليس مجرد رئيس أركان الجيش، إنه حديث رئيس الدّولة... وقد سبقه، في الافتتاحية نفسها، كلام عن "أنّ ما حققته الجزائر الجديدة على نهج تجسيد الاستراتيجية الشاملة للتّنمية المستدامة... وتعزيز مكانتها، كطرف إقليمي ودولي، ترافقه جهد مضنية يبذلها الجيش الوطني الشعبي"... وطبعا، الضّمير المستتر في "الجهود المضنية" هو الفريق أول سعيد شرنقريحة...
السيد عبد المجيد تبون، بصفته رئيس الدولة، حضر في الافتتاحية في معرض المُشارك في حدث "قمة الغاز" وفي تدشين المعبر بيْن الجزائر وموريتانيا، وبدون "فائض قيمة" في الأهمية... لا بل الافتتاحية، كتبت عن "تدشين جامع الجزائر"، بدون مُدشّن، أي بدون فاعل... الفاعل المهم في الافتتاحية هو رئيس الأركان... وفي سنة الانتخابات الرئاسية، هذا النوع من "الرسائل" ليْست مُعقدة لفكر شِفرتها على المعنيين، وأوَّلهم السيد تبون... صفّارة إطلاق الحملة الانتخابية لم تُصفِّر بعد... وها قد أُطلقت الحملة المُقلِّلة، من حصيلة السيد تبون في مهامه "الرئاسية"... افتتاحية مجلة "الجيش" هي نوع من مذكرة توجيهية للسياسة الجزائرية... ولَعلّ ذلك ما حمّس رئيس حزب البناء، الإسلاموي، بن قرينة، للمطالبة بإجراء الانتخابات الرئاسية في مَوْعدها... وما وصفه بالتشويش الإعلامي المغربي عليها... لابد من المغرب في كل ما لا علاقة للمغرب به... السيد شهيته مفتوحة لذلك الاستحقاق، وهو يصنف نفسه مقدم خدمات بسخاء لجنرالات الحكم الجزائري، وخاصة في كل ما هو ضدّ المغرب... وأولائك يزنون الأهمية السياسية للفاعلين السياسيين في البلد، بقدر جاهزيتهم وحماسهم لتجنّدهم ضد المغرب... المعني، أن الجنرالات لم يتوافقوا بعد لا على موعد الانتخابات الرئاسية ولا على مرشحهم فيها... وقد يكون السيد تبون هو المرشح الضرورة، إذا لم يعثر الجنرالات على "ضالتهم" من بين أسماء العرض السياسي في الجزائر...
افتتاحية "المكانة الدولية للجزائر" في مجلة "الجيش" الجزائرية، عدا عن فقراتها المتعلقة بدور رئيس الأركان، هي مُجرد تلفيف - إنشائي لبالون صرف الانتباه عن حقيقة تدهور العلاقات الخارجية الجزائرية... ومن مؤشرات تلك الافتتاحية ما يتضمن التدليل على ذلك التدهور وليس على تطور المكانة...
"قمة دول الغاز"، هي مُجرد الدورة السابعة لمنتدى الدول المصدر للغاز، والذي تأسس سنة 2001 بطهران... وهي دورة أقل من عادية، بالنظر إلى غياب ثلاث رؤساء لدول أعضاء هامة في المنتدى، وهم رؤساء مصر، الإمارات وروسيا... وخلال تلك الدورة وحواليها، احتفى حكام الجزائر بالرئيس الإيراني أكثر من غيره... فيما يشبه التعبير عن ولائهم له ضد السعودية والإمارات... الاجتماع لم يكن فيه للجزائر أي دور خاص، وهو بلا أي مخرجات استثنائية في القضايا الدولية وفي العلاقات الدولية... عدا عن إدانة "القيود" الأحادية الجانب بدون قرار مجلس الأمن، وهي إدانة تهم أساسا إيران...
الرئيس الموريتاني السيد ولد الغزواني، الذي شارك في تدشين المعبر الرابط بين تندوف والزويرات، والذي حضر "قمة دول الغاز"، هو نفسُه الذي رفض مجاراة حكام الجزائر في مراهقتهم السياسية بدعوتهم لاجتماع "متمرّد" على اتّحاد دول المغرب العربي... الرئيس الموريتاني مسؤول، ومُعقَّم ضِدَّ "جاذبية التأثير" الدولي لحكام الجزائر، اختار الحكمة في عدم الانْسياق مع النزعة العدائية لحكام الجزائر ضِدّ المغرب...
أما جامع الجزائر، فهو بَيْت واسع من بيوت الله، لا يسع أي مُسلم إلا تثمين تشييده، وهو ليس الثالث من حيث الأهمية في العالم الإسلامي كما يدعي الإعلام الجزائري... ولكنه لا يتحمل مسؤولية مهام ديبلوماسية، لا دينية ولا سياسية، فشلت في إنجازها الإدارة الديبلوماسية للبلد... والديبلوماسية الدينية تحتاج إلى طاقة دفعٍ وجاذبيةٍ تاريخية ومذهبية، لا يملكها حكام الجزائر...
في نفس موعد صدور مجلة "الجيش"، صدر في جريدة مالية ملف رئيسي يتهم حُكام الجزائر بتمويل ودعم الإرهاب في مالي... وهو عاصفة ما قبل القطيعة معهم، وسيستفيض صحافي جزائري، في موقع له، في تعداد مؤشرات تراجع مكانة الجزائر في إفريقيا... أشار إلى ابْتعاد دول الساحل والصحراء من نفوذها، مالي والنيجر خاصة، وهما على حدود الجزائر... وجنوب إفريقيا هي من تقود الجزائر وليس العكس... نيجيريا مُنْجذبة إلى فعّالية وصِدقية علاقاتها مع المغرب وليس إلى هشاشة علاقاتها مع حكام الجزائر، وفي أهم منجزها، أنبوب الغاز...
في الصحافة الجزائرية نفسها، مقالات عن تعقيدات العلاقات الجزائرية الفرنسية، وعن غضبٍ جزائري من إسبانيا... وحتى علاقات الجزائر العربية مليئة بالثقوب... مع الإمارات، مع السعودية (شرنقريحة عمّق تأزم العلاقات مع السعودية برفْضه هدية أداء العمرة من السلطات السعودية)، وهي في النزاع الليبي مُؤَجّجة للتّوَتُّر... وبالتالي مُضَيِّعة لمكانة مفترضة... وقس على هذه الوقائع كثير غيرها... والمكانة مُقوِّمات، وليس مُجرَّد ادِّعاء أو توهُّم... ويستطيع حكام الجزائر أن يُوفِّروا لبلدهم المكانة التي تستحقها إن هُمْ خلصوا في تدبيرهم وفي سياساتهم من مركزية العداء للمغرب... لو أنهم توجَّهوا نحو التكامل والتعاون والتفاهم مع المغرب، فسيكون للجزائر في الموقع المغاربي المميز، مكانتها المستحقة وليس تلك التي تتوَهّمُها وتُعارك، عبثا، من أجلها...