أشرفنا اليوم على بلوغ عتبة 484 مقال رأي بالتمام والكمال، نشرت في العشرات من الجرائد الورقية والإلكترونية الوطنية والدولية، فضلا عن بعض المجلات المتخصصة في القانون والأرشيف، حاولنا من خلالها مواكبة متغيرات الشأن الداخلي في مستوياته السياسية والاجتماعية والتعليمية والتربوية والأمنية والرياضية والإعلامية وغيرها، محاولين قدر المستطاع، الإسهام في خلق نقاش مجتمعي جاد ومسؤول بشأن مختلف قضايانا المجتمعية وما ينتظرنا من رهانات وما يواجهنا من تحديات متعددة الزوايا، بعيدا عن لغة اللغط أو الجدل أو السب أو التشهير أو تصفية الحسابات.
وقد أخذ موضوع "الأرشيف" حيزا من اهتماماتنا، عبر كتابة ونشر جملة من مقالات الرأي، حاولنا من خلالها توجيه البوصلة نحو مؤسسة "أرشيف المغرب" وما تضطلع به من مهام وصلاحيات وتدخلات صونا للتراث الأرشيفي الوطني، والإحاطة بالمسألة الأرشيفية في أبعادها القانونية والمؤسساتية والتاريخية والتراثية والسياسية والحقوقية والحداثية والتربوية وغيرها، وهذا الاهتمام الأرشيفي البالغ، توج بإصدار كتابنا الأول حول موضوع "مسألة الأرشيف بالمغرب: تراث وحداثة" الذي تحقق على أرض الواقع، بناء على اتفاقية شراكة وتعاون بيننا ومؤسسة أرشيف المغرب في شخص مديرها الدكتور جامع بيضا.
كتاب تضمن من بين ما تضمن، دعوات صريحة مباشرة موجهة إلى بعض رجالات الفكر والثقافة والسياسة والإبداع بضرورة ائتمان "أرشيف المغرب" على ما يتحوزون به من وثائق أرشيفية، من باب الإسهام الفردي والجماعي في حفظ التراث الأرشيفي الوطني، ودعوات أخرى إلى الانخراط في اتفاقيات شراكة وتعاون بين "أرشيف المغرب" وقطاع "التربية الوطنية"، ليس فقط من أجل الإسهام في تعزيز وتكريس ثقافة الأرشيف في أوساط الفاعلين في التربية والتعليم، بل ولمد جسور التواصل والتعاون بين المؤسسة الأرشيفية والمؤسسات الفاعلة في قطاع التربية الوطنية، بما يضمن الارتقاء بمستوى الممارسة الأرشيفية التعليمية، وجعل قضايا الأرشيف والتاريخ والتراث والهوية في صلب أنشطة الحياة المدرسية.
ولم نكتف بحدود الدعوة إلى خلق شراكات تعاون بين أرشيف المغرب وقطاع التربية الوطنية، بل حرصنا كل الحرص على ترجمة هذا المطلب على أرض الواقع، بعد أن بادرنا إلى عرض مشروع الشراكة على المديرية الإقليمية للتربية الوطنية بالمحمدية في شخص مديرها الأستاذ محمد جبوري، الذي تفاعل إيجابا مع هذا المشروع التربوي غير المسبوق، وبنفس درجة حرارة التفاعل، رحبت أرشيف المغرب في شخص مديرها الدكتور جامع بيضا بمقترح مد جسور الشراكة والتعاون مع المديرية الإقليمية بالمحمدية، مما أثمر على توقيع اتفاقية شراكة وتعاون بين أرشيف المغرب والمديرية الإقليمية للتعليم بالمحمدية، تعد التجربة الأولى من نوعها على الصعيد الوطني بين المؤسسة الراعية للأرشيف العمومي ومديرية إقليمية للتعليم.
وبنفس الحماس وبذات الطموح الذي قادنا إلى إنجاح مقترح الشراكة بين أرشيف المغرب ومديرية التعليم بالمحمدية، نوجه عبر هذا المقال، رسالة مفتوحة على التوالي إلى "أرشيف المغرب" و"المديرية العامة للأمن الوطني"، ندعو من خلالها إلى التفكير في مد جسور الشراكة والتعاون بين "أرشيف المغرب" ومؤسسة "الأمن الوطني"، وهذه الرسالة تحكمت فيها عدة اعتبارات موضوعية ندرج بعضها على النحو التالي :
- انخراط المديرية العامة للأمن الوطني في استراتيجية الإصلاح وما يرتبط بها من عصرنة وتحديث وتخليق للمرفق العمومي، وهذه الاستراتيجية لابد أن تستوعب الممارسة الأرشيفية على مستوى المصالح الأمنية المركزية والجهوية، لما لهذه الممارسة من تجويد للأداء الأمني وتنظيم للمعلومة الأمنية، التي يصعب وضع مخططات واستراتيجيات أمنية بدونها.
- التنظيم المحكم للأرشيف الأمني، يعد مدخلا للحكامة الأمنية الجيدة، ومرآة عاكسة للتخليق داخل المرفق الأمني، وأرضية متينة لبلورة وتنزيل خطط واستراتيجيات أمنية ناجعة وفاعلة ومتبصرة، تقطع مع ممارسات اللخبطة والتردد والارتباك.
- القيمة النوعية للأرشيف الأمني، ليس فقط في حفظ تراث الأمة في بعده "الأمني"، بل في تقديم قاعدة بيانات أمنية، من شأنها الإسهام في الارتقاء بالمرفق الأمني والمساعدة على صناعة قرارات أمنية مضبوطة، تقطع مع مشاهد الارتباك.
- غياب "ربما" أي شكل من أشكال التعاون والتواصل بين "أرشيف المغرب" و"المديرية العامة للأمن الوطني"، مما قد ينعكس سلبا على الأداء الأمني على مستوى تدبير الأرشيف الأمني وحفظه.
- الخبرة الأرشيفية التي يمكن أن تضعها أرشيف المغرب رهن إشارة المؤسسة الأمنية، بما يضمن التأسيس لممارسة أرشيفية أمنية ناجعة وفق مقتضيات قانون الأرشيف ومرسومه التطبيقي.
- استناد القانون المؤسس للأرشيف على مقتضيات زجرية ذات صلة بالمخالفات الماسة بالأرشيف، مما يجعل الشرطة عموما وضباط الشرطة القضائية خصوصا، شريكا لامحيد عنه، لكسب رهانات حفظ التراث الأرشيفي الوطني وزجر المخالفات الماسة به.
- انحسار عمل ضباط الشرطة القضائية في دائرة الجرائم الاعتيادية المنصوص عليها في القانون الجنائي، من قبيل جرائم القتل والعنف والضرب والجرح والسرقات والنصب والاحتيال والتزوير والمخدرات وغيرها، بينما تدخلهم في بعض المخالفات المنصوص عليها في قوانين خاصة يبقى محدود ومحتشما، إن لم نقل منعدما، كما هو الحال بالنسبة للقانون المنظم للأرشيف.
- مجموعة من ضباط الشرطة القضائية يكادون يجهلون وجود قانون متعلق بالأرشيف، لاعتبارات ثلاثة، أولها: أنهم ينشغلون أساسا بالجرائم الاعتيادية المنصوص عليها في القانون الجنائي، وثانيهما يرتبط بنوعية المخالفات الماسة بالأرشيف والتي يتقاطع فيها "التقني" ب"القانوني"، وثالثها يمكن تفسيره بعدم تملك ثقافة الأرشيف داخل مجال الشرطة القضائية، بالنظر إلى حداثة التجربة الأرشيفية بالمغرب، فضلا عن محدودية التواصل والتعاون بين أرشيف المغرب ومؤسسة الأمن الوطني.
وعليه وتأسيسا على ما سبق، نأمل أن تصل الرسالة إلى صناع القرار الأرشيفي والأمني، وأن تحضر الإرادة المشتركة لدى الجانبين (أرشيف المغرب - المديرية العامة للأمن الوطني)، للانخراط في صلب اتفاقية شراكة وتعاون، من شأنها أن ترتقي بواقع الممارسة الأرشيفية على مستوى المديرية العامة للأمن الوطني ومختلف المصالح الخارجية التابعة لها، بما أن أرشيف المغرب قادرة على تقديم الخبرة الضرورية في هذا المجال، والارتقاء بواقع التكوين في مجال الأرشيف، عبر التفكير في إدراج مادة خاصة بالأرشيف ضمن العروض البيداغوجية التي يقدمها المعهد الملكي للشرطة بالقنيطرة ومختلف مدارس الشرطة التابعة له، سواء في إطار التكوينات الأساس أو المستمرة، بما يضمن تكريس ثقافة الأرشيف في أوساط نساء ورجال الأمن الوطني وتكوين أطر شرطية متخصصة في مجال تدبير الأرشيف، وفتح الإمكانية أمام ضباط الشرطة القضائية لتلقي تكوينات دورية قانونية وتقنية بمؤسسة أرشيف المغرب، لجعلهم في صلب المسألة الأرشيفية وما يتهدد الوثيقة الأرشيفية من جرائم، فضلا عن تعزيز جسور التعاون في مجال تثمين "التراث الأرشيفي الأمني" (وثائق، بطاقات التعريف الوطنية، لباس شرطي، معدات ووسائل شرطية، صور، تكوين شرطي...)، في ضوء الخبرة التي اكتسبتها أرشيف المغرب في مجال تثمين التراث الأرشيفي، كما أن اتفاقية تعاون من هذا القبيل، قد تعبد الطريق أمام المؤسسة الأرشيفية في اتجاه خلق جهاز "شرطة للأرشيف" تتحمل مسؤولية الحماية القانونية للوثائق الأرشيفية وزجر المخالفات المقترفة بشأنها. وإذ ندلي بهذا المقترح، ندرك أن الأحلام والمشاريع الكبرى، تكون أفكارا صغيرة في المهد، على أمل أن يتحول هذا الحلم الصغير إلى حقيقة، من شأنها تعزيز أواصر الشراكة والتعاون بين مؤسستين وطنيتين رائدتين من حجم "أرشيف المغرب" و"الأمن الوطني" خدمة لحاضر الأمة ومستقبلها.