في مساء باريس البارد، من يوم الثلاثاء 3 دجنبر 2025، أمام ارتجاف قناديل تتذكّر خطى العابرين من كل الأمكنة إلى المدينة الجامعية، فتحت دار المغرب بابها، لا كجدار من حجر، بل ككائن يتنفس التاريخ، وتنبعث من قاعاته روح المتوسط، تحمل رائحة الأندلس وملح الأطلسي وظلال أسوار فاس في مساءاتها الخاشعة. صعد مدير دار المغرب، حمو تاوريرت إلى المنصة، كربان يعيد الروح إلى دار حملت تاريخ المغرب في باريس، ثم هدأت طويلا قبل أن يأتي هذا الرجل الأكاديمي الذي أعاد نبضها الحقيقي. ومن خلفه، رجل الخفاء، محمد باديش، الذي لا يظهر في الواجهة لكنه يحرّك العجلات الدقيقة للمشهد الثقافي، كأنّه الحارس غير المُعلَن لذاكرة المكان وسرّه العميق.
في افتتاحه، قدّم المدير ضيفي الندوة بطريقة تجعل الحاضرين يشعرون وكأن المعرفة نفسها تتقدّم إليهم بوجهين: وجه انبثق من تجربة الهجرة المغربية وتحول إلى قوة سياسية وفكرية، ووجه خرج من مختبرات البحث الاقتصادي فجعل من الهجرة علما دقيقا، لا مجرد ظاهرة إجتماعية. إرتفع صوتان أتيا من جهتين مختلفتين لكنهما يلتقيان في جوهر واحد: حقيقة الإنسان حين يغادر أرضه بحثا عن ملاذ، أو عن معنى، أو عن نفس إضافي للحياة.
كانت نجاة فالو بلقاسم تصعد إلى المنصة كما لو أنها تعود إلى بيتها الأول. كان وجهها يحمل شيئا من تاريخ شخصي كتب على جسور الهجرة، من قرى المغرب البعيدة إلى ردهات السلطة الفرنسية. وخلفها كان كتابها "Réfugiés, ce qu’on ne nous dit pas" يلمع كمرآة سرية تكشف الجانب الذي لا تراه الخطابات السياسية. فالكتاب ليس مجرد تجميع للوقائع، بل محاولة لكسْر الرواية الرسمية حول اللاجئين، الرواية التي تختزل وجودهم في الأرقام، وتصوّرهم كعبء على الاقتصاد وعلى الدولة الاجتماعية. بلقاسم تؤكّد، من خلال بيانات وتجارب، أن ما لا يقال للناس هو أن اللاجئين يسهمون - بعد سنوات قليلة - في نمو إقتصادي وفي تجديد ديموغرافي تحتاجه الدول كما يحتاج الجسد إلى دم جديد.
وفي تحليله الدقيق، يذهب شريكها في الكتاب، الاقتصادي بينجامان ميشالي، إلى أبعد من مجرد الدفاع الأخلاقي عن اللاجئين. فهو يعيد قراءة التاريخ الطويل للهجرات البشرية، مؤكّدا أن الحركة البشرية أقدم من الدولة ومن الحدود، وأنها ليست إستثناء بل قاعدة في حياة الإنسان. يقدم في الكتاب تحليلا كميا يبيّن كيف تتحول الهجرة القسرية، بعد المرحلة الأولى من الهشاشة، إلى قوة دافعة لسوق العمل، وإلى مصدر لإعادة توزيع الحيوية داخل المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة. ويكشف أن ربط الأزمة الاقتصادية باللاجئين ليس إلا تبسيطا سياسيا مصنوعا لمعالجة الخوف لا لمعالجة الواقع. الاقتصاد، كما يكتب ميشالي، لا يهتم بأصل الإنسان بل بكفاءته وقدرته على الإنتاج؛ أما الخوف، فهو منتَج سياسي يخدم مصالح قصيرة المدى.
وفي تحليله الدقيق، يذهب شريكها في الكتاب، الاقتصادي بينجامان ميشالي، إلى أبعد من مجرد الدفاع الأخلاقي عن اللاجئين. فهو يعيد قراءة التاريخ الطويل للهجرات البشرية، مؤكّدا أن الحركة البشرية أقدم من الدولة ومن الحدود، وأنها ليست إستثناء بل قاعدة في حياة الإنسان. يقدم في الكتاب تحليلا كميا يبيّن كيف تتحول الهجرة القسرية، بعد المرحلة الأولى من الهشاشة، إلى قوة دافعة لسوق العمل، وإلى مصدر لإعادة توزيع الحيوية داخل المجتمعات التي تعاني من الشيخوخة. ويكشف أن ربط الأزمة الاقتصادية باللاجئين ليس إلا تبسيطا سياسيا مصنوعا لمعالجة الخوف لا لمعالجة الواقع. الاقتصاد، كما يكتب ميشالي، لا يهتم بأصل الإنسان بل بكفاءته وقدرته على الإنتاج؛ أما الخوف، فهو منتَج سياسي يخدم مصالح قصيرة المدى.
وبينما تواصل بلقاسم حديثها عن الخوف المتجدد من الآخر، يتجدد السؤال: كيف تحوّل الطالب الأجنبي إلى عبء محاسبي بدل أن يكون إضافة معرفية؟ وكيف صار اللاجئ ملفا إنتخابيا بدل أن يكون إنسانا يبحث عن ملاذ؟ وأيّ أخلاق تلك التي تبرّر تحويل مآسي البشر إلى مواد دعائية؟ في إحدى صفحات الكتاب، يُظهر الكاتبان مقارنة دقيقة بين كلفة إستقبال اللاجئين وعائدهم الاقتصادي، ليتّضح أن المجتمعات التي تجرؤ على استقبالهم تكسب على المدى المتوسط أكثر مما تدفع. لكن الأهم أن هذه المجتمعات تكسب ما هو أعمق: صورة نفسها ككيان أخلاقي قادر على حماية قيمة الإنسان.
وبدا الجمهور في تلك اللحظات وكأنه ينصت لأسطورة تعود في شكل محاضرة حديثة. كان الحديث عن اللجوء السياسي يشبه نهرا تحت الأرض يسمع وقع خطوات الأمم. أوروبا التي تقدّم نفسها كقلعة للحريات، كانت عبر القرون ملجأ للثائرين والمنشقين والفلاسفة والمطاردين. بقدر ما أعطت ملاذا، بقدر ما نسيت أن جزءا من حضارتها شيّد على أكتاف من طرقوا أبوابها هاربين من قمع أو فقر أو حرب. اليوم، وهي تواجه موجات جديدة من الهجرة، يبدو أنها تواجه في العمق سؤالا عن نفسها، عن ذاكرة أخلاقية بدأت تتآكل تحت ضغط الشعبويات والتوجّس من الغريب.
ومع تغيّر وجه الحديث في تلك القاعة، كان الخوف من الآخر يعرّي هشاشة المجتمعات الحديثة. ليس الخوف من اللاجئ خوفا من جسده، بل من فكرة يرى فيها البعض تهديدا لهوية لم يعد أصحابها واثقين من صلابتها. هنا يتجاوز الكتاب نطاق الاقتصاد ليصبح تشخيصا لمرض الهوية الأوروبية. الخوف، كما يكتب ميشالي، لا يأتي من المهاجر بل من انعدام ثقة المجتمع بنفسه. والهجرة تصبح مرآة: ترى فيها الدول ما تهرب منه داخليا أكثر مما ترى فيه القادم من الخارج.
كانت الندوة تكشف أن اللجوء ليس مجرد بند قانوني، ولا الهجرة مجرد رقم في الميزانية. إنها قصة الإنسان حين يحارب للبقاء. وحين تخاف المدن التي جاء إليها، يظل يحمل في داخله يقينا واحدا: أن الرحلة، مهما طالت، تبدأ دائما من سؤال بسيط لكنه مزلزل: أين يمكن أن أعيش بكرامة؟ وفي ختام الأمسية، حين اصطف الحاضرون لالتقاط الصور وتوقيع الكتب، كانت دار المغرب تشبه ميناء قديما تلتقي فيه سفن من كل العالم. كان المكان يشهد بأن حركة البشر قدر لا يتوقف، وأن المعرفة وحدها تستطيع أن تجعل من الاختلاف جسرا لا جدارا، ومن الهجرة فرصة لا تهديدا، ومن اللجوء بداية جديدة لا نهاية باهتة.
وفي الخارج، وأنا أتأمل باريس، بلد الجنّ والملائكة واللاجئين، كانت المدينة تلمع تحت المطر، كمدينة تعرف أنها بقدر ما تخاف الغرباء، تحتاج إليهم أيضا كي تظل مدينة. كان المطر يسقط على الأرصفة كحبر يعيد كتابة السؤال الذي حاولت الندوة الإجابة عنه: إلى أين نمضي إذا واصلنا النظر إلى المهاجر كخطر، وإلى اللاجئ كعبء، وإلى الطالب كتكلفة؟ في الخلاصة التي يقترحها كتاب بلقاسم وميشالي، يبدو أن مستقبل المجتمعات لن يقاس بقدرتها على بناء الأسوار، بل بقدرتها على حماية الكرامة الإنسانية كجزء من إقتصادها ومن سياستها ومن صورتها عن نفسها. فالمجتمع الذي يشيح بوجهه عن الهاربين من الموت، إنما يشيح بوجهه عن إنسانيته هو. والمجتمع الذي يرفض أن يرى في الغريب فرصة، إنما يحكم على نفسه بالانكماش. إن الرسالة الأعمق في الكتاب، والتي بدت كأنها تلخّص تلك الأمسية كلها، هي أننا لا نخاف المهاجرين بقدر ما نخاف السؤال الذي يأتون به: ماذا تبقّى من قيمنا حين نغلق أبوابنا؟ وفي هذه اللحظة، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق: إمّا أن تتذكّر أنها بنيت على عبور البشر، أو أن تكتشف متأخرة أنها فقدت روحها حين أنهكتها المخاوف الصغيرة التي صنعتها السياسة.