الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

محمد البالي: امتداد الانحراف (4)

محمد البالي: امتداد الانحراف (4) محمد البالي

ومن المغالطات ما يصدر عن وعي زائف أو عن عادات ثقافية واجتماعية مترسبة دون قصد من مرسل الخطاب المغلوط.

قد يقول مدافع: إن المسار الذي سلكه إقرار قانون 04/21 ديمقراطي.

تنطوي هذه الحجة على نفس المغالطة السالفة، وهي "الانحراف عن المطلوب"، ذلك أن القضية سؤال عن انسجام القانون مع المبدأ الديمقراطي، وليس عن الآلية.

قد يقول آخر: إن دستور 2011، الذي وسع صلاحيات المحكمة الدستورية، قد أقر الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا.

هذا الدفاع مغالط بدوره، عن قصد أو دون قصد، فهو بدوره يعتمد حجة مضللة، إذ ينطلق من قراءة حرفية (كلمة كلمة)، فوجب التذكير بأن الدستور نص متكامل، ولكل نص سياقه الداخلي والخارجي.

فالنص داخليا كلمات بحمولة شتى وعبارات وجمل وفقرات وروابط بينها. وخارجيا ظروف وسلط وعلاقات وقراءات وتأويلات. لذلك يميز الباحثون بين النص والتأويل، وبين دستورين: واقعي ومجازي.

وقد تابعنا مطالب أحزاب تنادي بالتنزيل (التأويل) الديمقراطي لنصوص دستور 2011، بعدما صادقت عليه ودافعت بتحبب وبدوغمائية على تضمنه كثيرا من الحقوق الاجتماعية والثقافية والسياسية، مقارنة مع الدساتير السابقة. وكأنها تتعامل مع هذه الوثيقة التأسيسة كفقرات مستقلة عن السلط الكامنة خلفه، والمتسترة بلغة تدغدغ مشاعر مختلف الفئات والجماعات. وتغفل قراءة تركيبية تجمع هذه الفقرات، لتقف على تعارض بينها. ثم تستنتج أن ما سطر من حقوق يقيد بعدم مخالفته القوانين الجاري بها العمل. من هنا تصير فقرة دستورية تابعة لقانون يفترض ألا يتعارض مع الدستور. فيصير الأصل فرعا والفرع أصل. ونضرب لهذا مثالا:

جاء في الفصل 28 من الدستور، ضمن باب الحريات والحقوق الأساسية:

"حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية. للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة."

وبعد تسع سنوات، تغيرت الظروف والموازين، فجاء مشروع قانون 22/ 20، الملقب ب"قانون الكمامة"، و"تكميم الأفواه"، استغل واضعوه سياق الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد 19، فأثقلوه موادا مقيدة، أكثر مما توقعه بعض المدافعين عن دستور 2011. وقد قوبل المشروع برفض واسع من طرف الرأي العام اضطر مقترحوه إلى سحبه أو تأجيل النظر فيه، قد يكون حتى فرصة سانحة. 

وجاء في الفصل 29 ضمن نفس الباب:

"حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. حق الإضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته".

لكن الشروط، التي يفترض أن يحددها القانون، قد تكون تعجيزية، أوتعسّر ممارسة ذلك الحق.

إنها عملية قلب وتجل من تجليات انحراف الخطاب السياسي، أو تلاعب سياسي يتشخص في الخطاب.

ويمكن أن نكشف هنا مغالطتين أخريتين، على سبيل التمثيل:

3- "مناشدة الاحتمال": اجتمع خطاب المدافعين على دستور 2011، بشراسة، على تثبيت الاحتمال بالتسلسل التالي:

أ- ينص الدستور على حقوق أساسية للإنسان.

ب- الإقرار بحقوق الإنسان من مقومات النظام الديمقراطي.

ج- إذن الدستور ديمقراطي.

إنها مغالطة استنتاج، حجة صورية، لن يكشف فساد منطقها، غير المتلقي المسلح بوعي نقدي. ذلك أنها تتوقع في المتلقي أن ينساق مع منطق المقدمة والنتيجة، وهو قالب لتمرير كثير من القضايا، قد تكون بلا صدقية.

4 - "تقطيع الأوصال"، وهي مغالطة يصطلح عليها الحجاجيون "البروكرستية": نسبة إلى شخصية "بروكرست" في الميثولوجيا اليونانية، الذي كان يضع من يضيفه في سرير حديدي، ثم يمطط جسمه أو يقتطع منه ليتساوى والسرير. وهي قريبة من دلالة كلمة "التشرميل" في المتداول الشفهي والصحفي.

فيما يشبه هذا، تعامل المدافعون على دستور 2011 مع بنود حقوق الإنسان في الوثيقة الدستورية، فطوعوا أسلوبه وفقراته لتستوعب حقوقا ترفضها السلط التقليدية، وتقيدها جمل في الدستور. وعليه، يمكن أن نمنح خطاب المدافعين؛ الممتد في مناظرات المثقفين المؤيدين وفي مواقف الأحزاب الموالية، صفة "البروكرستية التأولية".

وكأنهم لا يريدون الاعتراف بسياقات داخلية وخارجية كانت الدافع إلى تعديلات دستور 2011:  حراك 20 فبراير المغربي و"ثورات الشباب العربي"، ويتحاشون أو يغفلون الانتباه إلى أن الدستور ميزان سلط اقتصادية وسياسية وثقافية؛ سلط يمكن اعتبارها "مؤلّْفا خفيا" جعل من وثيقة الدستور سرير بروكرست الذي تتمزق عليه أجساد مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ويتم تقديمها في عبارات مستعارة من فضاء حقوقي وديمقراطي، تجعل اللغة مجازا خادعا وقابلا للتأويل. ولبيان هذا نقدم التمرين التالي:

اشرح الكلمات التي تحتها خط، ثم فسر الجمل فيما يلي:

أ- "تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم". (الجملة الثانية في الفصل الثاني، دستور 2011)

ب- "الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي". (دستور 2011، الفصل 11).

(يتبع)

باحث في الخطاب المغربي المعاصر