الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

في "مدارات" التهاني: العلامة المحقق محمد بن شريفة المدافع عن التراث المغربي الأندلسي

في "مدارات" التهاني: العلامة المحقق محمد بن شريفة المدافع عن التراث المغربي الأندلسي المرحوم محمد بنشريفة وفي الإطار الصورة الزميل عبد الإله التهاني
خصص الزميل عبد الإله التهاني ليلة الثلاثاء 18 ماي 2021، ضمن سلسلة حلقات برنامج "مدارات" ، حلقة خاصة عن العالم والأديب المحقق والبحاثة المرحوم محمد بنشريفة، لإضاءة جوانب من سيرته العلمية الحافلة، من خلال استعراض مظاهر ريادته في مجال الدراسات حول التراث الأدبي والعلمي المغربي الأندلسي .
في مستهل كلمته عبر أثير الإذاعة الوطنية بالرباط، استحضر معد ومقدم برنامج "مدارات" ،  حديث العلامة المرحوم الدكتور محمد بنشريفة عن نفسه بالقول: "لقد تربيت في بيئة أهلها من المتصوفة وحفظة القرآن، غرسوا في نفسي شيئا  من التهيب وعدم الحديث عن النفس والإبتعاد عن الظهور". 
وكذلك كان رحمه الله ـ يقول الزميل عبد الإله التهاني ـ في تقديمه " ، مبرزا أنه كان دارسا كبيرا للأدب، فقيها، عالما، ولغويا مدققا، ومحققا كاشفا لأسرار المخطوطات المحفوظة في الخزائن الخاصة والعامة، قارئا متعاملا مع كل خطوطها وأشكالها وزخارفها، وبذلك استطاع العلامة محمد بنشريفة أن يكون رائدا من رواد الثقافة المغربية الحديثة، ومن صروح  العلم في المغرب، ومن أركان الجامعة المغربية التي منحها في مجال الدراسات الأدبية والتراث المغربي الأندلسي،  إشعاعا واسعا، حتى لا نكاد نعثر إلا ناذرا على أمثاله ، في مجال تخصصه المرتبط بالتاريخ الأدبي والحضاري الأندلسي، مع غير قليل من الإهتمام بالمدرسة الفقهية المغربية".
وعن سيرة حياته،  أفاد معد ومقدم  البرنامج، قائلا : "رأى العالم والأديب المحقق المرحوم الدكتور محمد بن شريفة النور في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، وهي حقبة تاريخية صعبة، لم يكن خلالها النبوغ في التحصيل العلمي يتأتى ، إلا للرجال العصاميين الذين آتاهم الله موهبة فذة، وقدرات فريدة، ونصيبا كبيرا من الصبر على المشاق التي تعرض لكل طالب علم" ، مشيرا في حديثه عن سيرته المهنية للمرحوم بنشريفة بالقول: 
"اشتغل مبكرا بالتدريس وخبر كل أطواره وأسلاكه، من معلم ثم مفتش تربوي في السلك الإبتدائي ، إلى أستاذ جامعي لامعا ذي مكانة علمية رفيعة داخل المغرب وخارجه ، برصيد ضخم من التأليف والإصدارات والمقالات البحثية في كبريات المجلات العالمية والمغربية والعربية".
وعن عصامية الرجل قال الإعلامي عبد الإله التهاني: "الذين جايلوا هذا العالم ورافقوا مسيرته العلمية ، يعلمون أنه كان يتمتع بكل مواصفات الرجل العصامي،  الذي كان يتأقلم مع كل الظروف الصعبة من أجل بلوغ مراتب العلم"، حيث أورد معد ومقدم البرنامج ، أن العلامة بنشريفة  "استفاد من النظام التعليمي الأصيل بالكلية اليوسفية في مراكش قبل إستقلال المغرب، بكل غناه الأدبي والديني وينابيعه اللغوية والفقهية ، بقدر استفادته لاحقا بعد استقلال البلاد من أجواء الدراسات العليا في الجامعة المغربية العصرية، حيث انتسب إلى كلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط التي تخرج من أول فوج لها سنة 1960، ثم كان أول باحث يسجل رسالته لنيل شهادة ديبلوم الدراسات العليا في الشعبة العربية ، وهي الشهادة التي حصل عليها سنة 1964، بعد أن دافع بنجاح على رسالته الجامعية حول الأديب والمؤرخ الأندلسي الشهير أبي المطرف أحمد بن عمير المخزومي، حيث تناول في هذه الدراسة شخصية المخزومي وحياته وتآليفه، والعصر الذي عاش فيه،  بين نهاية القرن السادس الهجري والنصف الأول من القرن السابع الهجري، إذ كان من ألمع أعلام الفكر والأدب بالأندلس".
واستطرد قائلا: "لقد طبعت هذه الرسالة الجامعية ، وصدرت ضمن منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي بالرباط،  تتصدرها مقدمة كتبها العلامة الكبير محمد الفاسي ، برورا منه واعترافا بالجهود العلمية القيمة للأستاذ المرحوم بنشريفة،  في إحياء التراث المغربي الأندلسي وتحقيق نفائسه". 
 وانتقل الزميل عبد الإله التهاني للحديث عن مرحلة أخرى من حياة الرجل العلمية بالقول: "سيعرف المسار العلمي للمرحوم العلامة محمد بنشريفة مرحلة أخرى بأفق أوسع ، بعد التحاقه بالجامعة المصرية في القاهرة، التي حصل منها على درجة الدكتوراه في الدراسات الأدبية سنة 1969 ".
أما عن قصته مع مشروعه العلمي لتحضير أطروحته للدكتوراه في الجامعة المصرية ، والتي تستحق أن تحكى ، ( إذ كان قد رواها المرحوم بنفسه في إحدى المناسبات العلمية حسب  الزميل التهاني: الذي قال : 
" كان المرحوم قد وفق في نيل ديبلوم الدراسات العليا بجامعة محمد الخامس بالرباط ، عن رسالته الجامعية،  فقر عزمه على الإنتقال إلى مصر والإستقرار فيها،  لإنجاز أطروحة الدكتوراه بجامعة القاهرة، لكنه من الطريف أنه اختار وسيلة غير معتادة في تلك الفترة للوصول إلى مصر، إذ سافر برا بالسيارة ، وكان في نيته أن يحضر موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه حول الإتجاهات الأدبية في عصر الموحدين، تحت إشراف الدكتور عبد العزيز الأهواني، الذي عرف كأبرز باحث في التراث الأندلسي بالجامعة المصرية، مع اهتمام شديد بالآداب الشعبية العربية خاصة منها الأجزال الأندلسية".
ويروي معد ومقدم برنامج مدارات ، أن المرحوم العلامة محمد بن شريفة كان له "سابق معرفة بالدكتور عبد العزيز الأهواني ، بحكم عمل هذا الأخير سابقا كأول مستشار في السفارة المصرية بالرباط، وكان قد حقق ونشر مجموعة من الأمثال الأندلسية ،جمعها أحد كبار علماء الأندلس وهو بن عاصم الغرناطي.  الذي كان فقيها وقاضيا وله تآليف عدة.
وما أن التقى بن شريفة بأستاذه المشرف ، وأثار معه موضوع هذه الأمثال شارحا بلطفه وتواضعه المعهود،  أنه وقف على أمثال أخرى أندلسية أقدم منها وسابقة عليها، لمؤلفها الزجالي القرطبي وهو من علماء قرطبة في القرن السابع الهجري، ما أن تحدث بن شريفة عن اكتشافه لهذه الأمثال والأزجال ، حتى باغثه أستاذه عبد العزيز الأهواني بأن هذا هو ما ينبغي أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراه، وهكذا سيتحول بنشريفة من موضوع الاتجاهات الأدبية في عصر الموحدين، إلى دراسة الأمثال الأندلسية".
 
هذا التحول الإضطراري من النصوص الأدبية الفصيحة إلى المرويات العامية ، التي تعكس لهجات قوم انقرضوا ، شرحه بنفسه العلامة المرحوم الدكتور محمد بنشريفة ، وكيف ساير رغبة أستاذه المشرف ، وفي هذا الصدد يقول المرحوم عن رحلته مع أمثال الزجال القرطبي :
 " كان عملي يقتضي جهدا خاصا، ذلك أنني ربطت الموضوع بمنابع وبأمثال العرب، لكن أمثال الأندلسيين تظل مثالا حيا، على أن الأندلسيين لم يكن يفوتهم شيء من تراثهم، سواء من التراث الفصيح أو العامي، ونحن نعرف أن بن قزمان وهو شاعر زجال من القرن السادس الهجري كان ديوانه منتشرا بكثرة، لكنه انتشر كذلك في المشرق. وهكذا كان تدوين الأندلسيين للأزجال، تدوينا في محله".
وأوضح عبد الإله التهاني بأن المرحوم "استمر يولي للأمثال الأندلسية العامية من عنايته الشيء الكثير، ويحسب له أنه حرص على تدوين هذا التراث، حيث أصدره في خمسة أجزاء يغطي الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثاني عشر الهجري، وهي كما سماها بنفسه مجموعات متسلسلة من الأمثال، مدروسة ومشروحة ومقارنة بغيرها من الأمثال العامية في العالم العربي".
لقد صرف العلامة محمد بن شريفة حياته في البحث والتنقيب،  وتحقيق المخطوطات النفيسة ، بغاية إحياء التراث المغربي الأندلسي، وإظهار فضل المغاربة وإسهامهم الغزير والمتنوع في إغناء الثقافة العربية والإسلامية خصوصا، وإثراء الثقافة الإنسانية عموما من خلال ما أبدعوه في مختلف المعارف والعلوم والفنون ـ حسب قول الإعلامي عبد الإله التهاني ـ. حيث سجل بأن عناية العلامة المرحوم بنشريفة " بتراجم الأعلام ومدوناتهم وتآليفهم، كانت عناية ذات أولوية ،،مع تركيز خاص على التراث الأدبي والفكري الأندلسي"، ومن هنا تعتبر رسالته الجامعية حول أبي المطرف بن عمير المخزومي ، "من بواكير دراسته الرصينة في هذا الباب ،لتعقبها سلسلة من مؤلفاته التي بلغت في مجموعها حوالي 55 كتابا، تناول فيها بالدراسة والتحقيق والتعريف والتنقيح ، حياة وآثار عدد مهم من أعلام المغرب والأندلس برزوا في ميادين الأدب والفكر والفقه والسياسة والقضاء ،  وبقية المعارف والعلوم..".
وفي سياق متصل، أشار عبد الإله التهاني إلى أن المرحوم بن شريفة "يكون من أوائل من انتبهوا إلى شخصية العالم المغربي الكبير القاضي عياض، حيث قام بتحقيق وترتيب الجزء المهم من كتابه الشهير المعروف باسم (المدارك) . كما حقق كتاب التعريف بالقاضي عياض.."
ولكي يؤكد صلة المغرب بالمشرق العربي ،  والباع الطويل للمغاربة في الاهتمام بثمراتالثقافة العربية المشرقية، واستيعابها والتفاعل معها والتعليق عليها "أنجز المرحوم بن شريفة دراسة قيمة،، رصد فيها صورة الشاعر أبي تمام والشاعر أبي الطيب المتنبي لدى المغاربة، وقد صدرت هذه الدراسة القيمة والفريدة في كتاب تحت عنوان (أبو تمام وأبو الطيب في أدب المغاربة".
وعلى اعتبار أن المرحوم بنشريفة ارتبط طويلا بالبحث في سجل الأمثال والأزجال الأندلسية ، كان من الطبيعي أن تثمر "أبحاثه في هذا اللون من التراث إصدارات ذات قيمة علمية غير مسبوقة، من حيث الدقة التي ميزتها، فقد وفق إلى إكمال مشروعه الرائد، حيث أصدر كتابه الثمين في الأمثال والأزجال الأندلسية والمغربية، وهو كتاب ضخم يقع في خمسة أجزاء ، تولت وزارة الثقافة طبعه سنة 2006..".
وقال في سياق إبراز  الرصيد الغزير للمرحوم بنشريفة : 
 " تطول لائحة المؤلفات التي شكلت عقدا متلألئا وفريدا ، رصع به العالم المحقق المرحوم بنشريفة رفوف المكتبة المغربية والعربية ، وأحيا من خلاله تراثا أدبيا وحضاريا مغربيا وأندلسيا غنيا ،، ظل لقرون طويلة حبيس المخطوطات في انتظار همة هذا الباحث المحقق،  بمعية ثلة أخرى من علماء المغرب الأفذاذ.