أثار قرار جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف السريالي بالجزائر بمنع أساتذة قسم التاريخ من الإدلاء بتصريحات لوسائل الإعلام الأجنبية استياءً واسعًا دوليا وسخرية عارمة، قرار خارج التاريخ الإنساني عكس فعلا عقلية الكابرنات في تدبير الشأن العام، وخنق الحريات، وفوبيا الحقيقة التاريخية، لدرجة ظهور توجه أمني للتحكم في التاريخ والسرديات التاريخية التي قد تفضح جانبا مظلما من تاريخ نظام العسكر، وزيف التأريخ تحت سيف الخوف والقمع.
يعكس هذا التوجيه العسكري في مجال أكاديمي حالة الخوف المزمنة التي تنتاب النظام العسكري البائد في الجزائر من الأصوات الحرة داخل المؤسسات الأكاديمية. فلم يعد يُسمح للأستاذ الجامعي أن يتحدث عن التاريخ إلا بعد المرور عبر رقابة صارمة، وكأن الفكر بات تهديدًا يجب إخضاعه للوصاية الأمنية.
إن ما يحدث في الجامعات الجزائرية ليس إلا جزءًا من مشهد قاتم أكبر، حيث يسعى النظام العسكري إلى إحكام قبضته على كل ما يمت للفكر بصلة. فالنظام الذي يفرض سطوته على الحياة السياسية والإعلامية والثقافية لم يكتفِ بذلك، بل قرر تحويل الجامعات إلى ثكنات فكرية محروسة، لا مكان فيها لأي رأي لا يتماشى مع الخطاب الرسمي.
وجدير بالذكر أنه في نوفمبر 2024، شهدت الجزائر إحدى أبرز الحالات المشاهدة على هذا القمع والخوف من الحبر، عندما اعتقلت السلطات الكاتب الفرنسي-الجزائري بوعلام صنصال فور وصوله إلى مطار الجزائر، لتحتجزه خمسة أيام قبل أن تصدر حكمًا غيابيًا بسجنه خمس سنوات بتهمة المساس بوحدة التراب الوطني. كان ذنبه أنه تحدث عن الحدود التاريخية بين الجزائر والمغرب، مما أثار موجة من الانتقادات الدولية.
ليس صنصال وحده من دفع ثمن التفكير الحر، وصدح بالحقيقة التاريخية غير المنحازة، فالصحافي إحسان القاضي واجه المصير نفسه، حيث حُكم عليه بالسجن سبع سنوات بتهمة تلقي تمويلات أجنبية لوسائل إعلامه المستقلة، رغم أن العفو الرئاسي الذي ناله لاحقًا لم يغير من واقع القمع شيئًا. ما زالت قناتا "راديو م" و"المغرب أيمرجون" مغلقتين، وكأن النظام يريد دفن أي صوت يخرج عن السيطرة.
وفي السياق ذاته يزداد الوضع قتامة وخطورة وبؤسا، بتوظيف قوانين مكافحة الإرهاب بشكل تعسفي لتكميم الأفواه، وفي هذا الصدد في عام 2021، تم تعديل المادة 87 من قانون العقوبات، لتشمل أي نشاط يُعتبر تهديدًا للأمن القومي، ما أتاح للعسكر ملاحقة الأكاديميين والصحفيين الذين يعبرون عن أفكار لا تُعجب الكابرنات . أصبح من السهل اعتقال أي مفكر لمجرد رأي يزعج أصحاب القرار.
لم يكتفِ نظام العسكر بتحويل الجامعات إلى منصات لبث الدعاية الرسمية، بل عمد إلى تعيين عمداء ومديرين على أسس الولاء السياسي، لا الكفاءة والمسار المهنيين، وفي ضوء التقارير الأمنية، لا التقييمات الفكرية، مما جعل المؤسسة الجامعية خاضعة بالكامل للتوجيهات العسكرية الأمنية الفوقية. نهج ستاليني شوفيني قمع روح البحث والإبداع، وحول الأساتذة إلى موظفين تحت رحمة القرار الأمني.
في الوقت الذي تدّعي فيه السلطة بناء جزائر جديدة قائمة على الديمقراطية والانفتاح، تفضح السياسات القمعية لنظام الكابرانات الوجه الحقيقي لنظام لا يحتمل أي صوت خارج عن السرب. لا يمكن الحديث عن نهضة فكرية في ظل جامعات مُحاصَرة، وأساتذة يُنظر إليهم كخطر محتمل. إن إعادة الاعتبار للجامعة كفضاء حرّ يتطلب أولاً إسقاط القبضة الأمنية عنها، وإعادة استقلاليتها كمؤسسة علمية، لا كأداة سياسية في يد السلطة، بل تحرر الجزائر من العصابة، التي تغير أقنعتها في كل مرحلة، وتحتفظ ببنيتها العسكرية السرية العميقة.
خالد أخازي، روائي وإعلامي