الاثنين 25 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

محمد بوعنونو : الجانب الإصلاحي في فكر أبي الحسن الأشعري

محمد بوعنونو : الجانب الإصلاحي في فكر أبي الحسن الأشعري محمد بوعنونو

لقد كان علماء السلف الصالح أثناء تصنيف كتبهم العلمية والفكرية والأدبية لا يغيب عنهم أبدا الجانب الإصلاحي بناء على ما كان يعرفه المجتمع من أزمات تستوجب تضافر الجهود في سبيل الرقي الحضاري وتجاوز أسباب الصراعات وموجبات التخلف مهما كانت أسبابه وتجلياته، فكانوا يفردون الصفحات الطوال لمقاربة هذا الإشكال أو ذلك مما كان يؤرق المجتمع أنذلك، إما بشكل مباشر كما فعل الحجوي الثعالبي في الفكر السامي أو الطاهر بن عاشور في أليس الصبح بقريب، أو بشكل ضمني أي بالإشارة والإلماع الخفي التي لا يدركها حاشا اللبيب المطلع على الظروف والسياق العام الذي جاء إثره هذا الكتاب أو ذلك، كما فعل مثلا أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات والأخضري في الجوهر المكنون أو مختصر العبادات.

وإن الناظر في كتاب { الإبانة في أصول الديانة} للعلامة أبي الحسن الأشعريرحمه الله يجد مشروعا إصلاحيا متكامل الأطراف يقوم أساسا على منهج علمي رصين يقرب المسافات بين مختلف الأنساق الفكرية التي كانت رائجة آنذلك { معتزلة ـ سنة ـ ...} والقضاء على الهوة بين مختلف الأطراف والتركيز على مواطن الاتفاق دون التصفيق للباطل أو مجانبة الحق. فالفرق الإسلامية كانت قبل زمن الأشعري إما ذات اتجاه عقلي محض أو ذات اتجاه نقلي خالص، كما أشارت إلى ذلك الدكتورة الفاضلة نزيهة أمعاريج في كتابها الموسوم بـ خاصية التوسط والاعتدال في فكر أبي الحسن الأشعري، الشيء الذي وسع الهوة بين هذه الفرق التي كانت تسعى في مجموعها إلى غرض واحد هو تنزيه الله تعالى وتقديس النص الشرعي وإن اختلفت طرقها لبلوغ هذا الأرب وضل كثير منها قبل تحقيق هذا الغرض، فكان هذا التباين الحاصل بين محتلف الفرق الإسلامية سببا في كثير من الصراعات التي انعكست سلبا على المجتمع وساهمت في إذكاء بعض الفتن التي لا زالت إلى اليوم نقطة سوداء في التاريخ الإسلامي، فكان أن جاء أبو الحسن الأشعري بمشروع إصلاحي يهدف إلى رص الصفوف وبيان الحق وتجاوز الصراعات والفتن، مشروع مبثوث في كتاب الإبانة في أصول الديانة يستطيع تذوقه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ويمكن مقاربة هذا الجانب الإصلاحي في فكر أبي الحسن الأشعريوالذي أعطى أكله وحقق الغرض المنشود من ورائه، من خلال بيان منهجه رحمه الله في إثبات العقائد الدينية والاستدلال عليها، من خلال القراءة المتأنية في كتابه الإبانة في أصول الديانة الذي شكل منعطفا حاسما في تاريخ الفرق الإسلامية، بل نقطة تحول في حياته هو رحمه الله إذ هو الفيصل بين الأشعري القديم والأشعري الجديد، الأشعري قبل الإبانة {المعتزلي} والأشعري بعد الإبانة { السني}، هذه المنهجية التي زواج فيها بين العقل والنقل في محاولة منه للتقريب بين مختلف الفرق الإسلامية واستجلاء الحق في أبهى صورة حتى لا يماري فيه إلا مشكوك في سلامة عقله، مستحضرا الإصلاح وتجاوز أسباب الخلاف، موظفا العلم كأداة فعالة في محاربة التطرف والزيغ والضلال.

لقد سلك الإمام أبو الحسن الأشعري منهجا عجيبا وطريقة متميزة في الاستدلال على العقائد الدينية وإثباتها ودحض شبه الخصوم وإنكارها، منهجا يزواج بين العقل والنقل، والوحي والمنطق معززا آراءه بأقوال الصحابة وأئمة السلف وربما أورد أصول الاعتقاد ومسائل الإجماع في إثبات هذه القضية أو تلك.

يورد الآيات أولا في المسألة أو القضية التي يروم إثباتها ثم يذكر الأحاديث أو الآثار الواردة فيها وما قاله أئمة السلف في شأنها ثم يذكر الإجماع إن كان في القضية إجماع، بعد ذلك يشرع في الاستدلال العقلي فيورد من الأدلة العقلية ما يكفي أو يزيد.

ومن المفيد جدا أن نذكر بعض الأمثلة التي توضح المنهجية التي ألمعنا إليها سابقا وتتضح الطريقة المذكورة آنفا، ويأخذ القارئ الكريم فكرة متكاملة الأركان حول منهج أبي الحسن الأشعري في دحض شبه الخصوم وبيان الطريق المستقيم، بعد ما شطت به المذاهب المرجوحة ذات الشمال وذات اليمين.

  1. قضية الإستواء : وهي قضية استوائه عز وجل على عرشه العظيم، فيورد رحمه الله الآيات المتعلقة بهذه المسألة، من قبيل قوله عز وجل : { الرحمن على العرش استوى }، و { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، ثم يذكر الأحاديث التي قد تسعفه في إثبات هذه المسألة، كحديث النبي صلى الله عليه وسلم { ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ...}، بعد ذلك يشرع في إيراد الحجج العقلية التي تدمغ الباطل فتذهبه، فيقول رحمه الله وهو يرد على من أنكر الاستواء وأوله بالقدرة {وهم المعتزلة ومن سار على نهجهم} أن لو كان الاستواء هو القدرة والاستيلاء لم يكن هناك فرق بين العرش والسماء والارض، إذ كل من الأرض والسماء والعرش تحت قدرته سبحانه، فهو على كل شيء قدير، ومن ثم فإن الاستواء غير القدرة والاستيلاء.
  2. قضية رؤية الله عز وجل : ويتضح هذا المنهج الذي قوامه التناغم بين الحجج العقلية والنقلية بشكل أكبر في قضية رؤية الله تعالى في الآخرة، فهو عندما أراد أن يثبت جواز رؤية الله في الاخرة ويرد على المعتزلة ذكر أولا الآيات المتعلقة برؤية الله تعالى، من ذلك قول القهار جل وعلا { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة }، ثم علق على ذلك بقوله رحمه الله " إن النظر إما أن يراد به الاعتبار أو التعطف أو الانتظار أوالرؤية، فبطل الاعتبار لكونه لا يليق باليوم الآخر، وبطل التعطف لكونه لا يليق به سبحانه، ثم بطل أيضا معنى الانتظار، لأن النظر الذي يراد به الانتظار لا يقترن بحرف الجر "إلى"، فإذا بطلت هذه المعاني الثلاثة صح المعنى الرابع الذي هو الرؤية،" ومن ثم جاز للمؤمن أن يرى الله عز وجل يوم القيامة، بل إن ذلك من أكبر النعم عند أهل السنة والجماعة.
  3. قضية خلق القرآن : ولكي يتضح المنهج أكثر نضيف أنموذجا آخر اعتمد فيه على المزواجة بين العقل والنقل، وهو قضية خلق القرآن الكريم، فأورد الآيات أولا من قبيل { ألا له الخلق والأمر } و { الرحمان علم القرآن خلق الإنسان }، فالآية تبين أن الخلق غير الأمر، ثم إن القرآن قال فيه {علم} والانسان قال فيه خلق. وخلقه سبحانه إنما يقول له كن فيكون،فلو كان القرآن مخلوقا لكان للقول قولا آخر وهو باطل، ثم قد تبين أن الله تعالى يتكلم يوم القيامة، فلو كان كلامه مخلوقا لجرى عليه الفناء.

ثم إن في القرآن أسماء الله وصفاته، فلو كان القران مخلوقا لكانت أسماؤه الحسنى وصفاته العلى مخلوقة وهذا عين البطلان.

وهكذا يمزج رحمه الله بين العقل والنقل ويورد أحيانا كلام الصحابة وأئمة السلف، ومسائل الإجماع مما تجده مبسوطا في كتاب " الابانة في أصول الديانة" حتى قال الباحثون في علم العقيدة : إن مسائل الإجماع في كتاب الإبانة يمكن أن تكون بحثا مستقلا، إذ إن كتاب الإبانة مصدر مهم لمسائل الإجماع في قضايا العقيدة.

وقد تتسائل أخي القارئ عن جدوى الحديث عن منهج إيراد هذه القضايا التي أكل عليها الدهر وشرب، وأصبحت في خبر كان بعد أن ظهر الحق وبان، ولا أخفيك سرا، فأنا أيضا كنت أتساءل مثلك عن الفائدة من وراء اجترار هذه القضايا ونفخ الروح فيها من جديد، فوجدت الترياق الشافي في كتاب فضيلة الدكتورة نزيهة أمعاريج حيث ذكرت حفظها الله أن الأنساق الفكرية كانت إما ذات اتجاه عقلي محض أو اتجاه نقلي خالص، فجاء أبو الحسن الأشعري فأحدث منعطفا حاسما في تاريخ الأمة الإسلامية وقرب المسافات بين مختلف الأنساق الفكرية، فكان ذلك عبارة عن مشروع إصلاحي ذو منهج علمي يقوم على الإصلاح أكثر من أي شيء آخر، كان ان أخرج هذا المشروع من بين فرث ودم كتابا سائغا للقارئين.

فهل سيحمل الدهر من جديد بمن يستفيد من هذا المنهج السديد ويوظفه في حل المشكلات الحضارية والفكرية التي تؤرق الأمة اليوم؟