منذ مدة ليست بالقصيرة، عزفت عن زيارة الحلاق، اشتريت أدوات حلاقة، وصرت أحلق لحيتي وشعري بنفسي. ولأن نصف شعري قد سقط، وضاع إلى الأبد، والنصف الآخر غزاه الشيب، لم تعد الحلاقة بذات الأهمية بالنسبة لي، كما كانت عليه أيام الشباب. الآن، لم يعد حلق اللحية والشعر يتطلب مني الكثير من التفكير في الموضة، وإطالة النظر في المرآة، والاعتناء بالحواف. كل ما أفعله، هو شحن بطارية آلة الحلاقة، ثم قيادتها على تلال وهضاب رأسي، جيئة وذهابا، في خطوط متوازية، كحصادة دراسة. خمس دقائق، كافية للتخلص من بقايا شعيرات، لا طائل منها، غير تذكيري بالذي مضى ولن يعود. بعد ذلك، يستحيل رأسي حقل شعير مر عليه إعصار، لم يبق فيه ولم يذر. ورغم أن العمل لا يكون متقنا عادة، وفي كل مرة تفلت بعض زغبات هنا وهناك، من فكي الآلة المزمجرة، إلا أن ذلك لا يشكل عبئا، لأن القبعة التي لا تفارقني، تخفي آثار الفشل.
أربعة أسباب دفعتني لمقاطعة الحلاق. أول هذه الأسباب، هو أنني أكره الأنتظار. ومن سخرية القدر، طيلة حياتي الماضية، لم يحدث أن ذهبت لزيارة الحلاق يوما، فوجدته متفرغا في انتظار أول زبون. في كل مرة، لا بد أن أجد قبلي طابورا من المنتظرين. كنت أمر أمام محل الحلاقة، وبمجرد أن ألمح زبونين أو ثلاثة، أعدل عن الحلاقة ذلك اليوم، وأعود أدراجي إلى البيت. أحيانا، كنت أكمل طريقي بحثا عن حلاق آخر، لكنني في الغالب كنت أقفل راجعا دون أن أقضي حاجتي. عندما كان شعري يطول أكثر من اللازم، ويصبح من المستحيل على أي مشط تسريحه، كنت أضطر للصبر على الانتظار، في سبيل الخلاص. ثاني الأسباب، هو ثرثرة الحلاقين. يعز أن تصادف حلاقا، يعرف كيف يتقن عمله، ويغلق فمه في نفس الوقت. كنت أجلس على الكرسي، أغلق عيني في انتظار أن ينهي المهمة بسلام، لأتخلص من القمل وبيوضه، لكنه لم يكن يدعني وشأني. بدون سابق إنذار، وبدون مقدمات، وأحيانا بدون سابق معرفة، يتوقف عن الحلق، ليثير موضوعا غريبا، كأن يحدثني مثلا، عن الصراع بين بابوا غينيا الجديدة ونيوزيلاندا، حول جزيرة بركانية، تعيش عليها فصيلة من الصراصير المهددة بالانقراض. ثالث الأسباب، هو أنني أكون دائما مجبرا على الانتباه، للتأكد من أن الحلاق عقم أدواته. وإذا حدث ولم أره يفعل، أصاب بالوسواس لأيام، وربما أسابيع، خوفا من التقاط فيروس ما. للأسف، أن بعض الحلاقين لا يواظبون على القيام بهذه العملية، ويصعب علي تنبيههم، لأن الأمر لا يأتي عادة بنتيجة تذكر. رابع الأسباب، وهو السبب الأهم، والذي دفعني لاتخاذ قرار لا رجعة فيه. بألا أسمح لأحد، بما في ذلك زوجتي، وخاصة زوجتي، بأن يحلق ذقني، هو الخوف من شفرة الحلاقة.
لا يمكن أن يقترب الحلاق من عنقي، والشفرة في يده، دون أن أفكر في احتمال إقدامه على ذبحي. بسبب إكثار الحلاقين من الثرثرة، صرت أخشى أن أختلف مع أحدهم في الرأي، فيمرر الموسى على عنقي من الوريد إلى الوريد. في السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع منسوب الشوفينية، وتواصل الشحن العاطفي، بت أخاف أن أقول للحلاق مثلا: سيدي، اعذرني، الجزائريون إخوتنا... وقبل أن أنهي الجملة، يكون عنقي قد أصبح نافورة نجيع. مع استمرار الأزمة الاقتصادية، ووصول الفقر والبؤس أقصى درجاتهما، يمكن أن أزور الحلاق وهو يعيش أسوء لحظاته، بحيث تعذر عليه أداء فواتير الماء والكهرباء، لم يدفع بدل إيجار شقته لمدة ستة أشهر، حكمت عليه المحكمة بالإفراغ، تركته زوجته، وفوق هذا وذاك، مصاب بالتهاب البواسير، ولا يجد مالا لعيادة طبيب. في تلك اللحظة، فإن عروقي وهي تنبض، ستثير غضبه أكثر، وتصيبه بالجنون. وفي لحظة تنور، سيمرر الشفرة بخفة، ويقدمني أضحية على مذبح البنك الدولي الذي جوعه، على طريقة جوني ديب في فيلم سويني تود.
لا يمكن أن يقترب الحلاق من عنقي، والشفرة في يده، دون أن أفكر في احتمال إقدامه على ذبحي. بسبب إكثار الحلاقين من الثرثرة، صرت أخشى أن أختلف مع أحدهم في الرأي، فيمرر الموسى على عنقي من الوريد إلى الوريد. في السنوات الأخيرة، ومع ارتفاع منسوب الشوفينية، وتواصل الشحن العاطفي، بت أخاف أن أقول للحلاق مثلا: سيدي، اعذرني، الجزائريون إخوتنا... وقبل أن أنهي الجملة، يكون عنقي قد أصبح نافورة نجيع. مع استمرار الأزمة الاقتصادية، ووصول الفقر والبؤس أقصى درجاتهما، يمكن أن أزور الحلاق وهو يعيش أسوء لحظاته، بحيث تعذر عليه أداء فواتير الماء والكهرباء، لم يدفع بدل إيجار شقته لمدة ستة أشهر، حكمت عليه المحكمة بالإفراغ، تركته زوجته، وفوق هذا وذاك، مصاب بالتهاب البواسير، ولا يجد مالا لعيادة طبيب. في تلك اللحظة، فإن عروقي وهي تنبض، ستثير غضبه أكثر، وتصيبه بالجنون. وفي لحظة تنور، سيمرر الشفرة بخفة، ويقدمني أضحية على مذبح البنك الدولي الذي جوعه، على طريقة جوني ديب في فيلم سويني تود.
هذا الخوف، تحول شيئا فشيئا إلى وسواس، ولم أعد أسمح حتى لزوجتي بحلق ذقني. الخطير في الأمر، هو إصرارها الدائم على مساعدتي في الحلاقة، من باب "الحرص على ألا تفلت مني أية شعرة، وتكون حلاقتي مثالية". فكرت أن إصرارها المستمر غير عادي، لا بد أن خلفه أمرا ما. أخاف، ألا تتذكر مشكلة قديمة بيننا، أو فعلة أقدمت عليها ونسيتها، إلا وهي تصل بالشفرة ناحية وريدي. عدلت إذن عن استعمال الشفرة، حتى لا أعطي لها فرصة المحاولة. أصبحت أستعمل آلة الحلاقة للتخلص من الشعر، وحتى من اللحية، ممنوع استخدام الشفرة. بين الحين والآخر، أسمع صوتها من خلفي في الحمام: لكون غير شريتي الموس والزيزوار، وتشوف الحسانة كي دايرة، ديك الطوندوز مكادير ليك والو". أنظر إليها في المرآة، أبتسم، واتابع حلاقتي، لكن عقلي يصرخ بداخلي: "والله ماديريها بيا".
هذا الأسبوع، ولالتزامات خاصة، اضطررت للدخول عند الحلاق. قررت الصبر على عذابات الانتظار، ومواجهة الخوف، تحت شعار: للضرورة أحكام. انتظرت دوري، وسمعت ما لا أذن سمعت، من الأخبار الغريبة، والتحاليل العجيبة، والخلاصات والاستنتاجات، التي لا تقدر عليها حتى أعتى مراكز الأبحاث الاستراتيجية. ورغم أن المدة طويلة، إلا أنني كنت أرجو أن يتأخر دوري أكثر، حتى لا أصل إلى كرسي الخلاق، ومن ثم مواجهة الشفرة وجها لوجه. ولكن، وبسبب المحاولات المتكررة لصاحب المكان وزبناءه، إشراكي في "نقاشاتهم" رغما عن أنفي، تمنيت لو حل دوري بسرعة، حتى لو كان مصيري الذبح. أسندت رأسي على الحائط، أغمضت عيني، رحت أفكر في الشفرة والسفاح ديكستر مورغان، فإذا بالحلاق يبادرني بالحديث: وا أستاذ، ما قلتي لينا آش بان ليك فهاذ التبهديلة دارت موريتانيا للجزائر؟ شعرت برغبة في الصراخ: ها العار ذبحني، ذبحني عافاك وهنيني....
عندما حل دوري أخيرا، لم تطاوعني رجلاي على الوقوف، صعب علي الوصول إلى الكرسي. بعد جهد جهيد، وقفت، انتابني الدوار. ابتسم الحلاق وطلب مني التقدم. شعرت أن له ابتسامة شرير، وتهيأ لي أن أنيابه طالت كمصاص دماء، وأضحت عيناه حمراوين. أردت المرور من خلفه والهروب، لكنه أدار الكرسي ليسهل علي الجلوس. حوصرت، جلست، كاد قلبي يغادر قفصي الصدري. أنزل الكرسي قليلا، تناول معجون البالموليف، استسلمت أنا وأغمضت مقلتي، قالي لي:
- غير اللحية ولا حتى الشعر ؟
فتحت عيني وقلت:
- غير الشعر... كانقد غير اللحية ....
- غير اللحية ولا حتى الشعر ؟
فتحت عيني وقلت:
- غير الشعر... كانقد غير اللحية ....
تناول الموسى، مررها على حافة النضد، وسقطت منها الشفرة. بدت لي شفرة كبيرة، أكبر بكثير من الحجم العادي. تتبعتها بعيني وهي تهوي إلى الأرض. ظلت نازلة ببطء شديد، كأنها في مشهد سينمائي معاد بالعرض البطيء. انتظرت ارتطامها بالأرضية. أصدرت صوتا موعجا، ذكرني بفيلم بسايكو لألفريد هيتشكوك. استدرت عند الحلاق، كان مشغولا بحرق الموسى، انتبهت أنها لم تكون موسى حقيقية، بل سكين جزار طويلة، وفي يده اليمنى لم يكن يمسك ولاعة، بل مشعل حداد. شعرت بالحرارة تلسع وجهي. دب الرعب في قلبي، أردت الصراخ، لكنني لم أستطع، انعقد لساني، وشلت حركاي، بذلت مجهودا كبيرا دون جدوى.
مر وقت طويل قبل أن يطفئ المشعل. مد يده إلى صندوق عليه صورة شفرة، استل منه سكينا ثانية، بدأ ببرد الواحدة بالأخرى، كمن يحضر نفسه لسلخ ثور. ناظرني بعين واحدة، وركز الأخرى على السكينين. بصعوبة، تمكنت من الاستدارة خلفي، اختفى الزبناء المنتظرون، كنا نحن الاثنين فقط في المحل، والباب مغلق. أردت الوقوف، لم أستطع، أطرافي الأربعة كانت مربوطة إلى الكرسي. جربت الصراخ بدون فائدة. وضع السكين الثانية من يده، اقترب مني، ابتسم مرة أخرى حتى ظهرت أنيابه البارزة. لمحت وجهي في السكين، كانت عروقي على وشك الانفحار. وضع يده اليسرى على رأسي، أنزل السكين على وجهي، شعرت ببرودتها. جرها بعنف، وصل أذناي صوت تقطع الشعيرات، كان شبيها بصوت السنابل تهوي تحت ضربات المناجل. مع كل شعرة قطعت، تطاير الدم في الهواء.
انتهى من حلق وجهي، حلق شانبي، استدار خلف الكرسي، تطلعت في وجهه في المرآة، كان يقطر عرقا، سالت الدماء من يديه، غطى الأحمر القاني وجهي. مسح السكين بمنشفة بيضاء، أنزل رأسي إلى الخلف ليصل إلى عنقي، ضحك وقال:
- ما بقا والو....
صوته كان أشبه بصدى، كأن أحدهم صرخ في الفراغ. وضع يده على جبهتي، ضغط عليها، مد السكين إلى عنقي، اخترقت الجلد، أحسست بالاختناق. في تلك اللحظة، سمعت شخصا يصرخ في أذني. قفزت، وجدت الحلاق واقفا أمامي والموسى في يده، قال باستغراب:
- سبحان الله، فين مشيتي؟ كانسولك واش حتى الموسطاش غاتحيدو مكاتجاوبني؟
في المرآة لمحت زبونين ينتظران دورهما، شخصت أعينهما، وبدت عليهما علامات الدهشة. تناولت منشفة، مسحت وجهي، اعتذرت:
- غير اسمح لي ماتليتش غانحسن.....
- ما بقا والو....
صوته كان أشبه بصدى، كأن أحدهم صرخ في الفراغ. وضع يده على جبهتي، ضغط عليها، مد السكين إلى عنقي، اخترقت الجلد، أحسست بالاختناق. في تلك اللحظة، سمعت شخصا يصرخ في أذني. قفزت، وجدت الحلاق واقفا أمامي والموسى في يده، قال باستغراب:
- سبحان الله، فين مشيتي؟ كانسولك واش حتى الموسطاش غاتحيدو مكاتجاوبني؟
في المرآة لمحت زبونين ينتظران دورهما، شخصت أعينهما، وبدت عليهما علامات الدهشة. تناولت منشفة، مسحت وجهي، اعتذرت:
- غير اسمح لي ماتليتش غانحسن.....
خرجت وجريت بأقصى سرعة إلى البيت. دخلت مباشرة إلى الحمام، وقفت أمام المرآة مرعوبا. سمعت صوتا قادما من خلفي:
- واش عكزتي تشد النوبة عاود؟ إوا كون غير جبتي الموس نحسن ليك...
- واش عكزتي تشد النوبة عاود؟ إوا كون غير جبتي الموس نحسن ليك...