في زمن تعصف فيه الصراعات المذهبية والانقسامات الدينية بالعديد من الدول الإسلامية، يبرز المغرب كنموذج فريد لما يمكن تسميته بـ"الإسلام المغربي"، إسلامٌ جمع بين العقل والنقل، وبين الأصالة والمعاصرة، واستطاع أن يبني لنفسه خصوصية حضارية ودينية صمدت أكثر من 12 قرنًا.
هذا النموذج لم يتشكل صدفة، بل هو ثمرة مسار تاريخي وفكري عميق، فمنذ سقوط الأندلس ووفود المسلمين واليهود إلى شمال المغرب، خاصة تطوان ونواحيها، بدأت معالم هذا التوجه في التبلور، فقد وجد المغرب في فقه الإمام مالك مدرسة تشريعية مرنة، تستوعب الواقع وتراعي مقاصد الشريعة، باعتماد مصادر متنوعة كالعرف، والمصالح المرسلة، والاستحسان، وشرع من قبلنا.
أما في مجال العقيدة، فقد تبنّى المغاربة العقيدة الأشعرية التي مزجت بين النقل والعقل، وأرست مبدأ الوسطية، وابتعدت عن تكفير الناس، مما منحها طابعًا جامعًا لا مفرقًا. وفي ميدان التربية الروحية، كان التصوف الجنيدي الخيار الأمثل، إذ ركّز على تزكية النفوس وتطهير القلوب بعيدًا عن الغلو أو التنطع .
هذا البناء المتكامل تُوِّج بإنشاء مؤسسة إمارة المؤمنين، التي يترأسها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس، باعتبارها الضامن الشرعي والدستوري لوحدة المغاربة الدينية، هذه المؤسسة حمت المغرب من الانزلاق في الفتن المذهبية والطائفية التي عصفت بغيره من الدول، وأغلقت الباب أمام الجماعات الدينية المتطرفة التي تحاول استغلال الدين مطية للوصول إلى الحكم . ولعل العبقرية الحقيقية للنموذج المغربي تكمن في قدرته على الاستفادة من بعض آليات ومزايا النظم العلمانية دون أن يفقد هويته الإسلامية؛ فقد تم إدماج مبادئ مثل احترام التعددية، وضمان الحريات الفردية، وتنظيم المجال العام وفق قوانين مدنية علمانية، بطريقة تتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وبذلك تحقق توازن دقيق بين التدين وحماية الحقوق، وبين المرجعية الدينية والانفتاح على قوانين الأمم المتحدة من جهة، وعلى الحياة المعاصرة ومستجداتها من جهة أخرى .
إن خصوصية الإسلام المغربي تتجلى اليوم في وسطيته واعتداله، وفي قدرته على التعايش مع جميع الأطياف والديانات، دون إقصاء أو تعصب، وهو ما جعله محط أنظار العالم ونموذجًا يُحتذى، غير أن هذه الخصوصية لم تَسلم من محاولات التشويش من بعض الحاقدين في الداخل والخارج، الذين يزعجهم هذا الاختيار الرشيد.
لكن المغرب، بفضل عبقرية نظامه الذي جمع بين مقاصد الشريعة وروح العصر، وبفضل مؤسساته التاريخية والدستورية، ما يزال صامدًا، محافظًا على استقراره ووحدته، ومتمسكًا بتلك المعادلة الذهبية: إسلام يجمع بين العقل والنقل، بين الأصالة والمعاصرة، وبين المرجعية الدينية والانفتاح المدني .
الصادق العثماني - أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية