
تفتح الصورة أدناه التي التقطت خلال مقابلة كروية بالدار البيضاء التي جرت بالأمس بين المنتخب الجزائري ونظيره الغيني، والتي تم الترويج لها بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، تفتح آفاقا واسعة لقراءة نقدية عميقة تتجاوز حدود المشهد الرياضي المباشر، لتلامس أبعادا رمزية وتاريخية وسياسية كامنة في تفاصيلها الصغيرة. الصورة تظهر شابا مغربيا يرتدي قميصا يحمل خريطة المغرب كاملة غير منقوصة، محاطا بجماهير جزائرية متحمسة ترتدي ألوان منتخبها الوطني وترفع شعاراته. هذه المفارقة البصرية البارزة تمنح الصورة قيمة تتجاوز مجرد كونها لقطة من مدرجات ملعب إلى حدث بصري يعكس تناقضات المنطقة المغاربية وآمالها في الوقت ذاته.
في المقام الأول، تكشف الصورة عن قدرة الرياضة، وكرة القدم خصوصا، على أن تكون فضاءً للتلاقي رغم توتر العلاقات الرسمية بين المغرب والجزائر. فالمغربي وسط الجمهور الجزائري، بلباسه الرمزي الذي يتضمن خريطة المغرب كاملة، يعبر عن حضور فردي يتحدى جدار التوتر السياسي القائم بين البلدين. فالملاعب غالبا ما تتحول إلى ساحات لتصريف الخطابات الوطنية أو لإعادة إنتاجها، غير أن هذه الصورة تبرز وجها آخر: إمكانية التعايش والاندماج، حتى وسط جمهور متحمس ومعروف بارتباطه القوي بالهوية الوطنية الجزائرية.
لكن القراءة النقدية لا يمكن أن تكتفي بهذا البعد الإيجابي وحده، إذ إن الصورة تكشف أيضاً عن حجم الشرخ السياسي الذي يجعل مجرد ارتداء قميص بخريطة المغرب كاملا حدثا لافتا يستحق التداول والتمعن. في وضع طبيعي، لا يفترض أن تكون الخريطة الوطنية على قميص رياضي موضوع حساسية أو إشارة استفزازية، لكنها في السياق المغاربي الحالي تتحول إلى فعل رمزي مكثف بالدلالات. فالمسألة هنا ليست مجرد اختيار لباس، بل إعلان هوياتي واضح يعبر عن موقف سياسي في قلب مدرجات مشبعة بمزاج وطني آخر.
من زاوية أخرى، يمكن النظر إلى الصورة بوصفها انعكاساً للتناقض بين الرسمي والشعبي. فبينما تعيش العلاقات السياسية بين المغرب والجزائر حالة جمود وقطيعة رسمية، يظل المجال الشعبي أكثر سيولة وقابلية للاختراق. فالمغربي في المدرجات الجزائرية ـ أو بين الجمهور الجزائري في الدار البيضاء ـ ليس عدواً ولا غريبا، بل فرداً يتشارك معهم لحظة فرح رياضي، حتى وهو يحمل رمزه الوطني الخاص. هذا التعايش اللحظي يعكس عمق الروابط التاريخية والثقافية بين الشعبين، التي لم تفلح السياسات الرسمية في محوها.
اللافت أيضا أن ردود أفعال الجماهير الجزائرية المحيطة به لا تظهر أي عداء أو توتر ظاهر، بل يبدو أن الجميع مندمج في الأجواء الرياضية دون التفات استفزازي إلى قميصه. هذه الملاحظة تضيف بعدا آخر للنص البصري، إذ تفكك الصورة بعضاً من الصور النمطية التي تسود الخطاب الإعلامي عن العداء المطلق بين الشعبين. هنا يبرز الواقع الشعبي في لحظة تلقائية أكثر تعقيدا وأقل خضوعا للخطابات الرسمية.
غير أن النقد يتعين أن يلامس كذلك خطورة تحميل الصورة أكثر مما تحتمل. فقد تتحول مثل هذه اللقطات إلى أدوات للاستهلاك السياسي أو الإعلامي، حيث يتم تضخيمها إما لإبراز "الاستفزاز" أو للإشادة بـ"التعايش"، في حين أنها لحظة عابرة داخل مباراة رياضية. لكن رغم ذلك، تبقى هذه اللحظة العابرة مشحونة برمزية عميقة تكشف عن طبيعة العلاقة المركبة بين المغرب والجزائر، علاقة تجمع بين التوتر السياسي والتقارب الشعبي، بين الحدود المغلقة والتاريخ المشترك.
إن حضور الخريطة المغربية كاملة على القميص وسط مدرجات تعج بالأعلام الجزائرية، يشبه إعلاناً صامتاً عن وحدة الأرض والهوية التي يراها المغربي جزءاً من كيانه غير القابل للتجزئة. وفي المقابل، فإن عدم اعتراض الجماهير المحيطة به يعكس استعداداً ضمنياً للاعتراف بواقع التعدد داخل فضاء واحد. هنا يلتقي البعد الرياضي بالبعد السياسي والثقافي ليؤكدا أن الشعوب قادرة على تجاوز الانقسامات الرسمية، ولو عبر تفاصيل بسيطة مثل قميص في مدرج.
الصورة في النهاية هي أكثر من مجرد مشهد جماهيري؛ إنها شهادة بصرية على تعقيد العلاقات المغربية الجزائرية. فهي من جهة تفضح هشاشة الوضع السياسي الذي يجعل الرموز الوطنية موضوع تجاذب، ومن جهة أخرى تؤكد أن الفضاءات الشعبية لا تزال قادرة على إنتاج لحظات تواصل وتعايش. وبين هذين الحدين، تظل الرسالة الأعمق للصورة أن الحدود السياسية مهما اشتدت تبقى أضعف من الروابط التاريخية والثقافية التي تجمع الشعبين، وأن كرة القدم تظل مختبراً رمزياً لهذه الحقائق.
الكلمة الختامية: إن هذه الصورة تختزل مفارقة عميقة في المشهد المغاربي: بين سياسات الانقسام ورغبة الشعوب في اللقاء. وهي بهذا المعنى دعوة إلى قراءة الرياضة لا كمتنفس جماهيري عابر فحسب، بل كمساحة رمزية قادرة على كشف التناقضات وتأكيد إمكانات الوحدة في آن واحد.