كتبتُ ردا على تصريح بن كيران الكاذب، الذي ادعى فيه أنه هو السبب الذي كان وراء رفضي للمقعد المزور في 1997. واعتبرت الأمر منتهيا عند هذا الحد: تصريحٌ، فَرَدُّ. لكن السيد إدريس الأزمي تدخل في ما لا صلة له به ليتولى الرد عَلَيَّ، مع أن المعني بردي هو شخص بعينه اسمه عبد الإله بن كيران.
يبدو أن علاقة الشيخ بالمريد التي تقوم على التسليم والطاعة هي التي كانت وراء هذه المهمة التي تحمس لها السيد إدريس الأزمي بكل ما أوتي من جهد وطاقة لخدمة الشيخ في كل الأحوال والأهوال. وبالفعل، فقد أبَان عن محبته وتسليمه وطاعته لشيخه والسير وفق الطريقة التي رسمها له، في انتظار أن يرث منه السر ويأخذ مكانه بمنطق "اللي عندي عند ولدي منير".
بعد اطلاعي على رد السيد إدريس الأزمي، وجدت نفسي مدعوا إلى توضيح بعض النقاط، ليس بدافع الانتصار للذات، ولكن لأن الرد حمل كثيرا من المغالطات، فضلا عن محاولة صاحبه قلب النقاش حول واقعة محددة إلى تصفية حسابات سياسية واستعمال خطاب دعائي يغطي به على جوهر الموضوع، بإقحام "من كنت أنتمي إليهم"، ومن اشار إليهم بـ"عائلتي السياسية". بينما، في ردي على بن كيران، توجهت إليه مباشرة، ولم أُثِرْ لا عائلته السياسية ولا جماعته الدينية.
أولا،
يمكن للسيد إدريس الأزمي أن يكرر لازمة "السقوط" مرات متعددة وإلى ما لا نهاية. لكن ذلك ليس كافيا لإثبات عكس ما قلته عن شيخه. إن السقوط الحقيقي هو العجز عن مناقشة جوهر الموضوع.
والأغرب أن السيد إدريس الأزمي، الذي استلذ وصف "السقوط" في حقي وانتشى به، نسي أو تناسى أنه هو من عاش سقوطا سياسيا مدويا في الانتخابات التشريعية والجماعية الأخيرة؛ هو الذي لم يكن مرشحا عاديا، بل وزيرا، وعمدة لمدينة كبرى، ونائبا برلمانيا، فضلا عن كونه رئيسا للمجلس الوطني لحزب شيخه.
لقد سقط سقطة مدوية ولفظه الناخبون شر لَفْظٍ. لم يخسر فقط العمودية، ولا دائرته البرلمانية، بل خسر جميع مقاطعات مدينة فاس وجميع دوائرها البرلمانية. وأصبح نموذجا لـ"الخسران المبين" ومثالا لـ"السقوط الشامل". وربما لذلك تحول إلى اختصاصي في السقوط، لا يُنتج إلا السقوط، ولا يتحدث إلا عن السقوط إلى درجة أصبح يغريه جمعُ السقوط وعَدُّهُ، بل أصبح يرى نجاح غيره سقوطا.
أليس من المفارقة المثيرة أن يتحدث عن سقوط ينسبه لغيره، بينما لم يجرؤ على مواجهة حقيقة سقوطه الشخصي؟ أليس هذا سقوطا أكثر من السقوط في الانتخابات؟! إنه سقوط سياسي وأخلاقي قبل أن يكون سقوطا في معترك انتخابي بين متنافسين، يُفترض -وهذا هو الطبيعي في أية انتخابات- أن ينتهي بفوز مرشحين وعدم فوز مرشحين آخرين.
ثانيا،
يتهمني السيد إدريس الأزمي باستعراض "عضلات لغوية"، حين استخدمتُ مرادفات للكذب، بينما لم أفعل سوى أنني كشفت تناقضات بن كيران المتكررة، وقدّمت للقارئ المفردات التي تفضح كذبه. أما "التحليل النفسي" الذي عاب علي استعماله، فهو أسلوب مشروع في النقد السياسي وفي تحليل الخطاب. وربما يغيب عنه أن من أهم المناهج في تحليل الخطابات السياسية وكذا السلوكات السياسية هو منهج التحليل النفسي. ويظهر أن هذا المنهج هو الذي يصلح أكثر من غيره لنقد "الخطاب" الذي يصدر عن شيخه وكشف دواعيه ودوافعه الحقيقية.
والغريب أن السيد إدريس الأزمي، الذي تهرَّب من جوهر الموضوع، يخول لنفسه الحق في تحديد الطريقة التي كان عليّ أن أرد بها على شيخه، لغةً وتعبيرا. ربما كان يريدني أن أرد على هواه! أو ربما كان يريد أن يرد مكاني، مثلما تكفل بالرد عَلَيَّ مكان شيخه!
ثالثا،
حين وصفتُ عبد الإله بنكيران بأنه كَذَّاب، لم أفعل ذلك اعتباطا أو انفعالا، بل استندت إلى واقعة محددة تتعلق بما قاله عن المقعد البرلماني المزور، حين ادعى أنه هو السبب الذي كان وراء رفضي لذلك المقعد. وسبق لي أن نبهته إلى زيف ادعاءاته، ولكنه ظل مصرا على كذبه وبهتانه. وكان من واجبي، للحقيقة وللتاريخ، أن أقول إن ما يرويه شيخ إدريس الأزمي لا يعكس الحقيقة كما عشتُها، أنا المعني بها. ومن حقي أن أصف ذلك بالكذب. قد يروق هذا الوصف للبعض، وقد يثير استغراب البعض الآخر، لكن هذا هو جوهر النقاش العمومي: أن نسمي الأشياء بأسمائها، وألا نترك الأساطير تصنع لنفسها مكانا على حساب الحقيقة.
رابعا،
هل يعقل أن يكون بن كيران هو الذي دفعني إلى رفض المقعد المزور وأنا لا أنتمي إلى حزبه، ولا علاقة لي به لا من قريب ولا من بعيد؟! ما السلاح الذي كان لديه ليجعلني أرضخ له وأرفض مقعدا برلمانيا؟! هل إلى هذه الدرجة يملك بن كيران السلطة والسطوة ليضغط علي أو ليضغط على قياديين بالحزب ليضغطوا هم بدورهم عَلَيَّ؟!
الواقع أن الأمر يتعلق برواية يتوخى بن كيران من خلالها البحث عن بطولة لم يعشها؟ وهنا كان الأجدر بالسيد إدريس الأزمي أن يعتمد على ما يقبله العقل والمنطق، بدل الاكتفاء بإنشاد المدائح في حق زعيمه وتمجيده.
وللتذكير فقط، عسى أن تنفع الذكرى المومنين، لماذا لم ينجح بن كيران في دفع مرشحي حزبه الثلاثة الذين أُعْلِن عن فوزهم بمقاعد بمجلس المستشارين في انتخابات 5 أكتوبر 2021 لتقديم الاستقالة من مجلس المستشارين، بعد أن تبين للأمانة العامة لحزبه أن الأصوات التي حصلها "البيجيدي" في الجهات التي ترشحوا فيها لا تسمح لهم بالفوز؟ لماذا لم يوظف بن كيران سلطته وسطوته في جعلهم يرفضون تلك المقاعد، رغم أن حزبه أصدر قرارا يدعوهم فيه إلى تقديم استقالاتهم من عضوية المجلس؟ لقد رفضوا الانضباط لقرار حزبهم، وانتهى بهم المطاف، بعد ثلاث سنوات، إلى الالتحاق بفريق حزب خصمه اللدود التجمع الوطني للأحرار.
خامسا،
يتحدث السيد إدريس الأزمي عن "المصداقية" التي يتمتع بها بن كيران، وبنفس الطريقة التي تحدث بها أحد العاملين بمقر حزبه لما قال إن "بنكيران لا يمكن أن يكذب"، في عبارة تُصْدر حُكما ينسحب على كل الأزمنة بما فيها المستقبل، وتدخل في "باب العلم بالغيب"، وتضعنا أمام "حقيقة مطلقة" غير قابلة للنقاش!
وحتى إذا كان الرجل ينعم من قِبَل أتباعه وغير أتباعه بهذه الصفة المطلقة "الصالحة لكل زمان ومكان"!، فإن ذلك لا يعفيه من المحاسبة على تصريحاته أو على سياساته. ومن حقنا أن نقول إن سياساته أضرت بالمجتمع، حتى لو صوت له المغاربة بعد ذلك. فالتصويت لا يمحو المعاناة، ولا يجعل من القرارات اللا شعبية إنجازات. الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي أيضا نقد دائم ومحاسبة مستمرة. والدليل أن "المصداقية" التي يتغنى بها السيد إدريس الأزمي لم تمنع حزب العدالة والتنمية نفسه من السقوط المدوي في انتخابات 2021، في رسالة واضحة من الناخبين عن حصيلة سنوات "حكمه"، وهي الانتخابات التي لم يذكرها، حيث توقف عند انتخابات 2016!
سادسا،
من المثير أن يطالبني السيد إدريس الأزمي بألا أخوض في "صلاحية بنكيران لحزبه أو للدولة"، بدعوى أن ذلك شأن داخلي للحزب أو قرار بيد الدولة. لكن أليس من حقي كمواطن، قبل أن أكون سياسيا، أن أبدي رأيي في رجل قاد الحكومة لخمس سنوات، وربما يتطلع إلى أن يعود إلى هذا الموقع مرة أخرى؟ أليس من حقي أن أقول إنه لم يعد صالحا حتى لحزبه، وأن الدولة التي يتوهم أنه مازال مطلوبا لخدماتها لم تعد ترى فيه ذلك؟ إن النقاش السياسي ليس حكرا على أعضاء الحزب ولا على "الناطقين باسم الدولة"، بل هو شأن يخص المجتمع كله.
سابعا،
والأدهى من ذلك أن السيد إدريس الأزمي يتحدث عن واقعة تعود إلى سنوات سبقت التحاقه بالعمل السياسي ضمن حزب العدالة والتنمية، فهو لم يُعرَف له لا موقف ولا صوت ولا حس سياسي في تلك المرحلة ولا بعدها بسنوات. فبأي حق يتدخل ليصادر رواية من عاشوا الحدث وهو لم يكن بعد جزءا من المشهد؟ أليس هذا إمعانا في ممارسة فاضحة لـ"الديبشخي"؟!
ففي الزمن الذي رفضتُ المقعد البرلماني المزور، لم يكن للسيد إدريس الأزمي أي أثر، لا في ساحة النضال السياسي ولا في تنظيمات حزب شيخه الذي ولجه فقط عند الاستوزار، مع العلم أنه "ماشي عاد تزاد البارح"، بتعبير شيخه في تهجمه على الصحافي سليمان الريسوني، وهو التعبير الذي يعكس نظرة ابن كيران إلى من هو أصغر منه سنا، واستخفافه بالشباب. فالسيد إدريس الأزمي لم يقترب من العمل السياسي إلا بعد أن اقترب من إقفال عقده الخامس، ولم يلتحق بحزب العدالة والتنمية إلا بعدما أصبح الحزب مصدر نعمة.
وبالمناسبة، أنا أحترم عددا من قيادات حزب العدالة والتنمية الذين أعرف مسارهم "الدعوي" والسياسي، قبل التحاقهم بحزب الخطيب وبعد التحاقهم به وتغيير اسمه وخوض تجربتهم الحزبية باسم جديد. أما السيد إدريس الأزمي، فهو طارئ على العمل السياسي، وليس مؤهلا ليُقحم نفسه في أمور يجهلها، ويتحدث عن وقائع سابقة بكثير على التحاقه بحزب شيخه. نعم، يمكن أن يتحدث، مثلا، عن تجربته في الحكومة وعن مدى ممارسته لصلاحياته كاملة في الوزارة التي كان وزيرا ملحقا منتدبا لدى وزير الاقتصاد والمالية مكلفا بالميزانية، أو عن تجربته حين كان عمدة لمدينة فاس (2015-2021)، أو حين كان نائبا برلمانيا عن دائرة فاس الجنوبية (2016-2021) واستعراض منجزاته.
ولعلم السيد إدريس الأزمي، فأنا التحقت بالعمل السياسي وأنا تلميذ، وانخرطت في حزب مناضل ومعارض في عهد الحسن الثاني وفي زمن وزير الداخلية إدريس البصري. ويمكن للسيد إدريس الأزمي أن "يستخبر" شيخه ليحدثه عن ذلك الوزير، ما دام لم يقترب من السياسة في زمنه. وأنا أعتز بمساري النضالي، منذ أن كنت في صفوف الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وعلى رأس قيادته حينذاك عبد الرحيم بوعبيد وبعده عبد الرحمان اليوسفي، الذي قال ابن كيران إنه يُجِلُّه كثيرا. وكنا، أنا ورفاقي، مناضلين لا أنصارا أو أتباعا أو مريدين، نعبر عن رأينا ونختلف مع قادة حزبنا، ولم نكن نَجِد أي ضير في أن نعلن ذلك للرأي العام ونُشرك المواطنين فيه، ونعتبر ما يجري داخل حزبنا شأنا يعنيهم هم كذلك، وليس "شأنا يعني أعضاء الحزب لوحدهم"، كما يصر على ذلك السيد إدريس الأزمي.
ثامنا،
يلومني السيد إدريس الأزمي لأنني لم أقدم "رواية مقابل رواية"، ويقول إنه كان عَلَيَّ "أن أكتفي بالرد بالوقائع على الوقائع". هل عَلَيَّ، كلما تناول شيخه هذا الحدث وأورد الرواية بالصيغة التي يريد، وبسوء نية فاضحة ولأهداف سياسية واضحة، أن أعيد عرضَ الوقائع التي سبق لي أن عرضتها في حينه وبعده؟!
لقد سبق لي أن رويتُ ما حدث وعرضتُ وقائعه بالتفصيل، وهي وقائع معروفة من طرف المناضلين الشرفاء، من الاتحاديين وغير الاتحاديين، الذين عاشوا تلك الانتخابات، وهم لا زالوا أحياء يرزقون. وهي معروفة لدى المغاربة الذين تابعوها في وسائل الإعلام الوطنية والدولية. لقد عرضتُ الوقائع موثّقة، مرات عديدة، في شكل حوارات أو شهادات، وكذا في كتاب "اليوسفي كما عشناه"، وأحلت على ذلك في ردي على بن كيران. فما على السيد إدريس الأزمي، إن هو أراد أن يعرف ما جرى، إلا أن يعود إليها. أما ردي على شيخه فقد توجه إلى كشف الأسلوب الذي يتبعه في تحريف الوقائع.
وإذا كان السيد إدريس الأزمي مهتما أكثر بالوقائع والأحداث، فيمكنه مثلا أن يبحث كيف ترشح شيخه بن كيران في الانتخابات الجزئية لسنة 1999 في دائرة المزرعة بمدينة سلا، وما علاقة المرحومين الحسن الثاني وإدريس البصري بذلك، وكيف أن المرشح الخاسر في انتخابات 14 نونبر 1997، وبعد أن ربح الطعن الذي تقدم به لدى المجلس الدستوري بإلغاء النتائج، "آثر" ألا يترشح في الانتخابات الجزئية، وترشح بدله الزعيم الذي لا يكذب.
أعود وأكرر،
إن ما فعلته هو ممارسة حقي في الرد على ادعاءات كاذبة، وتسمية الأشياء بأسمائها التي لا تقبل غير وصفها بالكذب. أما السقوط الحقيقي، فهو أن يتحول النقاش العمومي إلى حلبة اصطفاف أعمى وراء شخص، وأن يُستبدل النقاش حول وقائع من التاريخ السياسي للمغرب بمرافعات دفاعية لا ترى في الزعيم إلا قديسا منزها، بل تقدس حتى كذبه. فعندما يدعي السيد إدريس الأزمي "أن هناك روايات عديدة ومن داخل عائلة السيد محمد حفيظ نفسه تروي تفاصيل أخرى عن تسلسل وطريقة وتوقيت التخلي والرفض"، ودون أن يورد رواية واحدة أو يذكر اسم من رواها من عائلتي، فإنه يرتكب افتراءً خطيرا بحقي وحق عائلتي. وبذلك، يعطي الدليل القاطع على أن المريد يتشبه بشيخه حتى في الكذب. فحين يكذب الشيخ، لا عجب أن يكذب المريد أيضا.
ومع ذلك، وبما أن السيد إدريس الأزمي يريد أن يعرف الوقائع، ربما لأنه لم يكن يقترب من السياسة وقتها، فسأعرض، في جزء ثانٍ من هذا الرد، الوقائع لحظة بلحظة، من تسلم المحاضر إلى نشر موقفي على الصفحة الأولى لجريدة "الاتحاد الاشتراكي"، وما تلا ذلك، بذكر الأزمنة والأمكنة وأسماء الأشخاص الذين عايشوا تفاصيلها.