Thursday 7 August 2025
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: يعيشون في البلاد لكنهم غرباء عنها

 
أحمد الحطاب: يعيشون في البلاد لكنهم غرباء عنها أحمد الحطاب
عندما أقول، في عنوان هذه المقالة، "يعيشون"، فالمقصود هو أن أيَّ شخص ازداد في بلدٍ ما وشبَّ فيه وكَهُلَ فيه وشاخَ فيه، فموطِنُه هو هذا البلد. وبعبارة أخرى، يُعدُّ منتمِياً لهذا البلد، أو يُعتَبَر مُواطِنا لهذا البلد، أي بإمكانه أن يستفيدَ من هذا البلد، ويُفِيدُه، من خلال المواطنة la citoyenneté. وبحُكم هذه المواطنةِ، تصبِح له حقوقُ des droits وتترتَّب عليه واجبات des obligations.

والمواطنةُ يمكن تلخيصُها في العلاقة أو الصفة التي تربط الشخصَ (المُواطِن) بالبلد (الدولة) الذي ينتمي إليه ازدياداً ونشأةً. وهذه العلاقة يمكن اختزالُها في"يستفيد من البلد ويُفِيده"، بكيفية متبادلة. بالمناسبة، "البلدُ" تسمية جغرافية بينما الدولة تسميةٌ سياسية. والتَّسمية السياسية تتضمَّن التَّسميةَ الججغرافية إذ لا يمكن التَّحدُّثُ عن بلد، سياسياً، بدون حدود جغرافية. فكيف يمكن للمواطِن أن يستفيدَ من الدولة ويُفيدُها؟

الاستفادة مما تضمنُه الدولة من حقوق كالتَّعليم l'enseignement والتَّغطية الاجتماعية la couverture sociale والبنيات التحتية المحلية أو الجماعية les infrastructures locales ou collectives والنقل والسكن الائق والعمل… مضمونةٌ دستورياً. أما ما يُفيد الدولةَ، فيتمثَّل في أداءِ الواجبات كتأدية الضرائب في أوانِها واحترام القانون واحترام المُمتلكات الخاصة والعامة والمساهمة في تدبير الشأن المحلي والعام وفي تنمية البلاد وازدهارِها…

فلماذا عنوَنتُ هذه المقالة ب"يعيشون في البلاد لكنهم غرباء عنها"؟ أو بعبارة أخرى، "كيف لمواطنينَ ازدادوا في البلاد وشبُّوا وكَهُلوا وشاخوا فيها أن يكونوا غرباءَ عنها"؟

جواباً على هذا السؤال، أقول إن فئةً من المواطنين، إن كانوا يومِياً، يعيشون ماديا في بلد ازديادِهم ونشأتِهم، فإنهم، فكريا وإيديولوجياً، يعيشون في مكان آخرَ. فمَن هم المُنتمون لهذه الفئة؟ بالنسبة لهذه المقالة، سأتحدَّث، بصفة خاصة، عن فئة المسلمين التي اعتدنا أن نُطلِقَ عليها تسمية السلفية الجهادية le salafisme djihadiste. وهي، بالطبع، جماعة من المسلمين المتشدِّدين في فهمِهم للدين ومستعدون لاستعمال العنف la violence، بجميع أشكاله، بما فيها القتل، لفرض فهمِهم للدين على الآخرين. لماذا؟

لأن السلفيين المتطرِّفين الجهاديين، إن كانوا يعيشون بأجسادِهم في بلدٍ ما، فإن عقولَهم غائبة، أي مشغولة بأفكار مُتطرِّفة صنعها غيرُهم، وهم يؤمنون بها إيماناً راسِخاً. أو إن شِئنا، يؤمنون بأفكارٍ استوردوها من بلدٍ آخر أو من ناسٍ آخرين. وهم يعرفون، حق المعرفة أن هذه الأفكار صنعها علماء وفقهاء، متشدِّدون في فهمهم للنصوص الدينية. لكنهم يعضُّون على هذه الأفكار بالنواجد، أي يتمسَّكون بها ويجعلون منها مرجِعا لسلوكهم وتصرُّفاتِهم اليومية. بل يريدون، إن استطاعوا، فرضَها على الغير.

والغريب في الأمر أن هذا السلوكََ والتَّصرفاتِ، مُستمدَّة ليس مما جاء به القرآن الكريم، ولكن من الفََهمِ المتشدِّد للنصوص الدينية التي أنتجها، في الماضي، علماء وفقهاء الدين المعروفون بفهمِهم المُتشدِّد لهذه النصوص، كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والسيد قطب…، علما أن هؤلاء العلماء والفقهاء تعرَّضوا لانتقادات شديدة من طرف علماء وفقهاء آخرين يتبنَّون إسلاما سمحا، وسطا ومُعتدِلا. والفهم المتشدِّد للنصوص الدينية، هو الذي أفرز جماعاتٍ متطرِّفةً دينياً كطالِبان وداعش وبوكو حرام والقاعدة وغيرهم.

وغالباً ما تستعمل هذه الجماعات الفهمَ المُتشدِّدَ للنصوص الدينية لتبريرِ العنف la violence والتَّحريض على الكراهية l'incitation à la haine. وهذا هو ما قام ويقوم به طالبان في أفغانستان وداعش في سوريا والعراق وبوكو حرام في بلدان الساحل الإفريقي والقاعدة في بعض بلدان الشرق الأوسط وخارجَه. لماذا هذه الجماعات المُتطرِّفة تلجأ إلى تبرير العنف والتحريض على الكراهية؟

لأن هذه الجماعات المُتطرِّفة تعتبر، من جهة، فَهمَ شيوخِهم للنصوص الدينية هو الصحيح، ومن جهة أخرى، ترى أن كل مَن يُخالف هذا الفهمَ، فهو كافر وتجب معاقبتُه وتطبيق عليه الحدود les châtiments corporels التي، أغلبها، أبدعها هؤلاء الشيوخ، وعلى رأسِها القتل. وهذا هو ما فعلته داعِش لما تمكَّنت من السيطرة على أجزاء كبيرة من العراق والشام.

وهذا النوع من البشر يعيش استلاباً فكرياُ وثقافياً une aliénation intellectuelle et culturelle، بمعنى أنهم منفصلون فكريا عن وطنِهم الأم. وهذا يعني أنهم يصدِّقون، بجرعةٍ عالية من الدُّغمائية le dogmatisme ما يقوله شيوخُهم ولو كان هؤلاء الشيوخ مُخالِفِين لِما نص عليه القرآن الكريم. وبالتالي، نراهم يُقدِّسون شيوخَهم ويعتبرونهم معصومين من الخطأ.

وهذا يعني إن إيمانَهم leur foi مبنيٌّ على تفسيرات متشدِّدة للنصوص الدينية. بل إن هذه التَّفسيرات تجعلهم فاقدين للفكر النقدي la pensée critique. بمعنى أنهم ليسوا على استعداد نفسي لمناقشة التفسيرات المتشدِّدة لرفضها، أو على الأقل، لإعادة النظر فيها، طالما هي مترسِّخة في عقولهم ويصعُب اجتثاتُها من هذه العقول. في هذه الحالة، هم مستعدون، بحكم تشدُّدِهم، لقبول كل ما هو متطرِّف، فكرياً، ولو أدى بهم هذا التَّصرُّف إلى التنكًّر لكل الأعراف الاجتماعية والأخلاقية renier les normes sociales et morales.

كل هذه الاعتبارات تجعل من المتطرفين مقيمين في أوطانِهم ويستفيدون من عطائها ومن نفس الحقوق التي توفِّرها الدولة لجميع المواطنين لكنهم، في الحقيقة، غرباء عن هذه الأوطان لعدة أسباب، أذكرُ من بينها ما يلي :

1.لا يقبلون، على الإطلاق وكما سبق الذكر، النقد الفكري لأن الأغلبيةَ الساحقةَ من المواطنين تعارض توجُّهاتِهم الفكرية والدينية، بل يعتبِرون معارضةَ تشدُّدِهم ضربا لإيمانهم الذي يُفتيه عليهم شيوخُهم.

2.لأن أفكارَهم الدينية المتشدِّدة أو إيديولوجيتهم الدينية المُتشدِّدة، هي مرجعيتَهم الوحيدة leur seule référence، وبالتالي، يرفضون كل أنواع التفكير والمعتقدات المُخالفة لتوجَّهاتِهم الفكرية.

3.لا يعترفون لا بالمواطنة، ولا بحقوقِها و واجباتِها ولا بالديمقراطية ومبادئها كالمساواة بين الرجل والمرأة وحرية الرأي وتعدُّد الافكار واختلافُها والانتخابات… لماذا؟ لأنهم يطمحون، إن عاجلاً أو آجلاً، في عودة نظام الحُكم الذي كان سائدا في المجتمعات الإسلامية، بعد وفاة الرسول (ص)، أي الخلافة. علما أن الخلافةَ انتهت مع انتهاء الخلافة العثمانية سنةَ 1924.

4.لا يُؤمنون بشيءٍ اسمُه التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي لسببٍ بسيطٍ. هو أن البلدان التي تقف وراء هذا التَّطوُّر، أي البلدان الغربية، تُعتَبر، حسب منظورهم الديني المتشدِّد.، بلدان كافرة. وذلك لأنهم يعتبرون التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي تحدِّياً للقدرة الإلهية على تسيير وتدبير الكون. بل يرون في التَّطوُّر العلمي والتكنولوجي نوعا من الفتنة التي تُزعزِع إيمانَهم…

وفي الختام، أقول إن هذا النوعَ من البشر، أي السلفيين المُتطرِّفين، وخصوصا، منهم السلفيون المُتطرِّفون الجهاديون، أينما وُجدوا، فأنا شخصيا، أُسمَّيهم "طفيليِّ الدولة" les parasites de l'État. لماذا؟ لأن الطُّفيلي، من الناحية البيولوجية، "يستفيد ولا يُفيد". بمعنى أن السلفيين، سواءً كانوا سلفيين متطرُِفين أو كانوا سلفيين متطرفين جهاديين، فهم عالة على الدولة والمجتمع، لأنهم، كما سبق الذكر، يستفيدون من عطاء هذه الدولة، ولا يُفيدونها. بل إنهم ينشرون الفتنةَ والترعيب والتخويف والتَّرهيب… ومستعدون لقتل الأبرياء، بطريقة أو أخرى، لنشرِ ما يعتبرونه الدينَ الصحيحَ المبنِي على العنف والكراهية.