السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد الشهاوي: سُلطةُ التكفير

أحمد الشهاوي: سُلطةُ التكفير

الإقصاءُ، والمحْو، والنفي، والإبعادُ، والحرمانُ، والشطبُ، والإزاحةُ، صناعةٌ عربيةٌ إسلاميةٌ، لها تاريخُها وجُذورُها في التاريخِ العربي والإسلامي، حيثُ من ليس منَّا، فليس من أهلِ الحقِّ، وينتمي إلى أهل الكُفر، وخارجٌ على العقيدةِ، ويحقُّ للفِرقة الناجيةِ أن تُكفِّرَهُ، وتُحاربَهُ، وتضطهدَهُ، وتُشهِّرَ، وتُنكِّلَ به أينما حلَّ؛ لأنهُ ليس من الجماعةِ، وينتسبُ إلى فرقةٍ مُغايرةٍ، كأنَّ الطريقَ إلى الله ليس على عددِ أنفاسِ البشر، وأن هذه الطريقَ ليست واضحةً لا لبسَ فيها، وكلٌّ يذهبُ إلى مولاه بطريقتِهِ، دُون وساطةٍ، ودُون مُرشدٍ، إذْ فُطرَ الإنسانُ على الحُبِّ، والنقاءِ، والنُورانيةِ، والإشراقِ، والفُتُوحاتِ الربَّانيةِ.

والإقصاءُ في دمِ المُسلم منذ ما يزيد على ألفِ سنةٍ، وهو ماضٍ في طريقِه إلى التكفيرِ والقتلِ، ولا جديدَ يحدثُ في أيامنا هذه، إذْ ما نراهُ ما هو إلا تجلٍّ للمنطقِ الإقصائي الذي اتخذه الأئمةُ والفقهاءُ إزاء بعضهم البعض، واتهام إمامٍ كابن حزم الأندلسي (30 من رمضان 384 هـ / 7 من نونبر 994م. قرطبة- 28 من شعبان 456 هـ / 15 من غشت 1064م ولبة) هجرية- الذي أحبه خُصوصًا في كتابه «طوق الحمامة في الألفة والآلاف»- لإمام آخر من أهلِ السُّنة، بل هو أحدُ أئمتها البارزين أبو الحسن الأشعري (260 هـ البصرة- 324 هـ بغداد)، حيث أخرجهُ من أهلِ الحقِّ، ورآه ليس من أصحابِ الفرقةِ الناجيةِ من النارِ.

ولأننا نعيشُ في مجتمعاتٍ مُغلقةٍ، يسُودُ فيها «تقويلُ الآخر ما لم يقلْهُ نصًّا»، حيث لا تنتجُ سوى جماعاتٍ مُغلقةٍ، وفرقٍ صغيرةٍ أو كبيرةٍ مُتعددةٍ وذات أفرُعٍ، وتسعى كلُّ واحدةٍ إلى إقصاءِ الأخرى، وتصوير نفسها على أنها المتحدثةُ باسم الله، وقرآنِه، ونبيه محمد وأحاديثه، وأنَّ ما عداها كاذبةٌ وكافرةٌ وضالةٌ وخارجةٌ عن الدين، ومن ثم يعانى المجتمعُ الإسلامي الآن وقبل الآن من تسلُّطِ سُلطةِ التكفيرِ، وإشهار سلاحها في وجهِ الجميعِ، مثلما يكابدُ من بشرٍ يدَّعون امتلاكَ الحقِّ، والكلمةَ الفصلَ، واليقينَ المُطلقَ، ويحشدون، ويُجيِّشُون لأجل ذلك قوتهم لإزاحةِ من ليس معهم أو منهم، ومنعهم من الحُضُورِ أو التمثيلِ، وعندما تُناقشُهم سيخرجُون لك أحاديثَ لم تسمع بها، وقصصًا من كُتبِ الهوامشِ مشكُوكًا في صحتها، لا تستسيغُها النفسُ، ولا يقبلها العقلُ السليمُ، وسيُبرِّرُون أفعالهم بأنهُم صوتُ الله، وليس ظله فقط على الأرضِ، وأنهم حرَّاسُ العقيدة، والمُدافعون الأُوَل عن كلمةِ اللهِ العليا، والتي ينبغي تثبيتُها في الأرضِ، حتى لو سالت دماءُ ملايين المسلمين، الذين هم من وجهةِ نظرهم في جاهليةٍ وارتدادٍ عن الإسلامِ الصحيحِ، الذي لا يعرفُه سواهم، فارضينَ عقيدَتَهُم بالقوةِ، مُسيِّسِين الدين، ومُستخدمينه لأغراضهم الدنيوية، حيث السياسةُ والسلطةُ والمالُ والنفوذُ.

ما نعانيه الآنَ، وقبل الآنَ، هو غلبةُ النظرةِ الأُحادية التي تُضفِى قداسةً على مُعتقداتها، وتمنح أصحابها ألقابًا دينيةً من عينة: الإمام، المرشد، المرجع الأعلى، الخليفة، الوالي، الشيخ الأكبر.

وهؤلاء لا يعرفُون التعدُّدَ والتنوُّعَ ومنطقَ الاختلافِ، ولا يعرفون أنَّ للكلمةِ وجُوهًا كثيرةً، وأنَّ للحقيقةِ جوانبَ عديدةً، وأنَّ الوصُولَ إلى الشيءِ، يُمكنُ أن يتم بطرائقَ شتَّى، وأنَّ هناك قراءاتٍ، وليس قراءةً واحدةً.

فليس من يختلفُ معي هو على باطلٍ، وأنا الحقُّ أو صاحبُهُ، أو أمثِّلُهُ، والإمام الشافعي (150 هـ/766 م غزة، فلسطين- 204 هـ/820 م الفسطاط، مصر) يقول: «رأينا صحيحٌ إنْ لم تكنْ هناك حجةٌ تدمغُه ورأى غيرنا هو الصحيحُ إن أتانا بحجةٍ أعلى من حجتنا».

أزمتُنا المُعاصرةُ القديمةُ من يملكُ الحقَّ فى الكلامِ باسم الله؟ ومن هو الذى خوَّل لسينٍ أو صادٍ من الخلقِ أن يكُونَ الأعلى صوتًا باسم الدين، ومن أعطاه هذا الحق؟

هو إذن تُراثٌ مُمتدٌّ ومُتجذِّرٌ من القمعِ والتكفيرِ، ولابد من مُساءلةِ هذه التركةِ الثقيلةِ من كتبَ السلفَ التي يُكفِّرُ أصحابُها بعضهم البعض، وعندما يصلُ الأمرُ لأن يُكفِّرَ «إمام» «إمامًا آخر» مثله، فماذا يفعلُ العبدُ الآبقُ الآثمُ الخارجُ عن الجماعةِ (من وجهة نظرِ الفرقةِ التي رأت نفسها أنَّها نجتْ من النارِ، في إشارةٍ إلى الحديثِ الذي يراه الكثيرون ضعيفًا، ومشكُوكًا فيه من الأصلِ، وعلى رأسهم ابن حزم الأندلسي، وهو أعلى رأسٍ في المذهبِ الظاهري، وأحد كبار أهلِ السُّنَّةِ: عن أبى هريرة، قال رسولُ الله: «افترقت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»).

وقد جاء هذا الحديثُ الضعيفُ بصورٍ وصيغٍ شتَّى مُتشابهةٍ، تُؤدِّى في النهاية إلى أنَّ أمَّة الإسلامِ كلها فى النارِ هالكة إلا واحدة وهى الجماعة، أي ما كان عليه الرسول وأصحابه.

لن يكونَ هناك إجماعٌ، ولن يكونَ الإسلامُ بلا مذاهبَ، إذْ فُطِرَ الإنسانُ على الاختلافِ، ولكن لماذا يقع الافتراقُ، ونكفِّرُ بعضنا بعضًا حد المحوِ والاستئصالِ، فهناك بلدانٌ عربيةٌ تُحرِّم دراسةَ الفلسفةِ الإسلاميةِ، بل الفلسفة بشكلٍ عام، باعتبارها من الأرجاسِ، ومن عملِ الشياطينِ، وهناك بلدانٌ أخرى تمنعُ الطرقَ الصوفيةَ، وتحاربُ التصوفَ والمُتصوفةَ، وتُصادرُ أي كتابٍ صُوفي، أو حتى فيه شبهةُ تصوفٍ، وتُكفرُ من ينتمي إلى التصوفِ، وتعتبرهم من أهلِ الضلالِ والابتداعِ.

لابد إذن من الاحترازِ من التكفيرِ ما وجد إليه سبيلا- كما قال الإمامُ الغزالي (450 هـ الموافق 1058م. 505 هـ- 19 من ديسمبر 1111م طوس، إيران). في كتابه: «الاقتصادُ في الاعتقاد»، فإنَّ استباحةَ الدماءِ والأموالِ من المُصلين إلى القِبلةِ، المصرحين بقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافرٍ في الحياة أهونُ من الخطأ في سفكِ محجمة من دمِ مسلمٍ.

إن لم يكن هناك تسامحٌ ووسطيةٌ وشورى وحوارٌ، لأنَّ في الاختلافِ رحمة، فلن يكونَ للمسلمين كتابٌ، ولا طرقٌ ولا وجودٌ، لأن حُروبَ المذاهبِ والفرقِ والجماعاتِ، ما هي إلا صورةٌ من حُرُوبِ الطوائفِ التي أسقطتْ حضارةُ الأندلسِ، وفى سبيلها إلى إسقاطِ حضاراتٍ أخرى دامتْ واتسعتْ وأثرتْ.

نحن أمةٌ مبدعةٌ في تثبيتِ دعائمِ الإقصاءِ، وصاحبةُ تقاليدَ عريقةٍ في الإبعادِ والتكفيرِ ومُحاربةِ المُختلفِ، كي نجعله مُؤتلفًا مع الجماعةِ، وإلا فسيكونُ مصيرُه الذبح، وتعليق رأسه على الشجرةِ القريبةِ من بيته، كي يعتبرَ المُختلفون المارقُون.

لا يمكنُ أن يعيشَ المرءُ مرفُوضًا تحت سماءِ الذمِّ، باعتباره خصيمًا لله، لأنَّ الإقصاءَ الديني ما هو إلا أسلوبٌ أيديولوجي؛ كي يحكُمَ الآخرُ ويتحكَّمَ، وهذا مسلكٌ اتبعهُ الأميون أثناء حُكمهم في تكفيرِ من اختلف معهم في إدارةِ الحُكم، أو من وجَّه لهم النصيحةَ، ولذا عندما سقطتْ دولةُ بني أمية (41- 132 هـ / 662- 750 م)، نكَّل العباسيون (132 هـ- سنة 656 هجرية) بهم وطاردوهم وحاربوهم، بل سحقوا جماجمَ خلفائهم، حيث أخرجوها من المقابرِ في مشهدٍ غير مكرُورٍ في تاريخِ الخُصُومات.

ولا أحد ينسى أن هناك صناعةً أخرى راجتْ طويلا، وهى صناعةُ تأليفِ الأحاديثِ، ونسبتها إلى الرسولِ والصحابةِ، كي تكونَ سيفًا مُسلطًا على رقابِ المُختلفين، وهى أحاديثُ تُعلِى منْ صنعَها، وتحُطُّ من شأنِ غيرهم، وتسمُهُم بالكُفرِ والزندقةِ والفُسُوقِ والإلحادِ والانحرافِ.

فالمغايرُ الذي هو مارقٌ من قِبلِ أهلِ الجماعةِ، مصيرُهُ معرُوفٌ، وهو الإقصاءُ والذمُّ والحِصارُ والتشهيرُ وذكرُ الفضائحِ حتَّى لو لم تكُنْ هناك فضائحُ بالفعل فإنهم يخترعُونَها، وتسفيهُ آراء ومُعتقداتِ الغيرِ، والتشنيعِ واللعن، وإعلاء رايةِ التكفيرِ، مع التأكيد أنَّهُم من أهلِ الضلالِ والباطلِ، والسِبابِ والشتائمِ والاتهامِ بالإلحادِ، والتحقيرِ والقدحِ، وتعمُّدِ الكذبِ، ورفعِ سيفِ القتلِ على الرقابِ.

(عن "المصري اليوم")