Monday 28 April 2025
كتاب الرأي

إبراهيم أفروخ: هكذا جاء الحكم الذاتي ...

إبراهيم أفروخ: هكذا جاء الحكم الذاتي ... إبراهيم أفروخ
بعدما لاحظت المملكة المغربية أن النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، في حاجة إلى مبادرة جريئة تخرج هذا الملف من الجمود، عرضت على المنتظم الدولي مقترحا تحت السيادة المغربية، يدبر فيه ساكنة المناطق المتنازع عليها شؤونهم بأنفسهم في إطار نظام الحكم الذاتي، هذه المبادرة التي أعادت الروح لمسلسل التسوية الأممي، ولقيت الكثير من الترحيب والدعم والقبول على صعيد كل المستويات، وإجماع أعضاء مجلس الأمن على أنها أرضية خصبة للتفاوض ومبادرة جدية وذات مصداقيه وقابلة للتطبيق.

بدأت معالم مبادرة الحكم الذاتي المقترح من طرف المملكة المغربية، تتضح مع بداية سنة 2004 وبالضبط عندما طالب مجلس الأمن الدولي أطراف النزاع إلى ضرورة التوصل إلى حل سياسي متفق بشأنه، هذا ما تضمنته فيما بعد الكثير من قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، التي أشارت إلى أن المفاوضات العلنية والسرية التي جمعت الأطراف المعنية تحت رعاية الأمم المتحدة ووسطائها الأمميين. الأمين العام للأمم المتحدة بنفسه أقر أن قضية الصحراء تحتاج إلى حل سياسي تفاوضي يرضي الطرفين، هنا جاء "الحكم الذاتي" الذي عرضه المغرب.

قبل تقديم المغرب مشروع الحكم الذاتي للأمم المتحدة، سبق للرباط أن عرضته على الأحزاب السياسية والفعاليات الحقوقية والجمعوية مع بداية سنة 2005، وفُتح نقاش عمومي واسع بكافة ربوع المملكة، وتم خلق نقاش كبير وبشكل غير مسبوق، عمّ النقاش جهات داخل المملكة وخارجها، في الوقت الذي كان فيه ملف الصحراء يدار حصريا من قبل القصر.
 
محمد السادس يعلن عن مبادرة الحكم الذاتي 
في 25 مارس من سنة 2006، أعلن الملك محمد السادس عن قراره منح سكان إقليم الصحراء حكما ذاتيا موسعا، وذلك في خطاب تاريخي ألقاه من مدينة العيون كبرى حواضر الأقاليم الصحراوية، وعين المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، وخصص استقبالا لرئيسه المعين خلي هنا ولد الرشيد والكاتب العام للمجلس شبيهنا ماء العينين، هذا المجلس الذي شرع مباشرة في تنظيم سلسلة لقاءات مع ساكنة الأقاليم الصحراوية والتشاور مع شيوخ ونُخب وأعيان القبائل الصحراوية.
 
(الكوركاس) يحضر المفاوضات 
قاد خليهنا ولد الرشيد رئيس المجلس الملكي للشؤون الصحراوية رفقة كاتبه العام شبيهنا ماء العينين سلسلة مشاورات ولقاءات مع أعيان وشيوخ القبائل الصحراوية وشملت جهتي العيون بوجدور الساقية الحمراء والداخلة واد الذهب، المجلس شرح للصحراويين تفاصيل الحكم الذاتي، ويظم المجلس 141 عضوا يمثلون معظم القبائل الصحراوية ويقع مقره الرئيسي بحي الرياض في الرباط ويملك بوابة إلكترونية (corcas.com) تتناول أهم أنشطة المجلس.

لم تقتصر أنشطة (الكوركاس) على المجتمع الصحراوي فقط بل المجلس حضر لأول مرة المفاوضات الأممية التي تجمع المغرب مع البوليساريو والجزائر وموريتانيا، ولم يمنع اعتراض البوليساريو والجزائر الشديد على مشاركة أعضاء هذا المجلس في المفاوضات، بل تم فرضهم من قبل المغرب كأعضاء أساسيين في الوفد المغربي وصار بعد ذلك الحضور في المفاوضات مألوفا.

(الكوركاس) يعقد اللقاءات بشكل مكثف ويستقبل مسؤولي الدول والمبعوثين والوفود البرلمانية والفعاليات الدولية. انفتح رئيس المجلس على الصحافة الوطنية والدولية وكانت قناة العيون الجهوية الشاشة المعتمدة لدى ساكنة الأقاليم الصحراوية ومخيمات تندوف، وهي قناة شبه متخصصة في قضية الصحراء ومبادرة الحكم الذاتي مع وتغطية المشاريع التنموية في المنطقة. تعطي القناة هامش كبير للأخبار وأنشطة المجلس الملكي للشؤون الصحراوية ولها متابعين في عدد من الدول العربية وكذلك مشاهدين من مخيمات البوليساريو.

الحكم الذاتي يبعث الأمل في ساكنة المخيمات
لا يمكن لأحد أن ينكر أن مبادرة الحكم الذاتي نالت اهتمام شريحة واسعة من الصحراويين سكان مخيمات تندوف، الواقعة غرب الجزائر والخاضعة لسيطرة البوليساريو. ليس لأنها مبادرة تحافظ على ماء وجه الجميع ومبدأ لا غالب ولا مغلوب فقط بل لأنها مبادرة بعثت الأمل في نفوس صحراوي المخيمات، خاصة الشباب منهم ولأنها مبادرة تلبي تطلعات جميع الصحراويين وتنهي معاناتهم وتضمن كرامتهم وجميع حقوقهم المشروعة، أكثر من عشرة ألاف موطن صحراوي يعودون إلى أرض الوطن قادة من البوليساريو يلتحقون بالوطن الأم.
 
الحكم الذاتي على طاولة المفاوضات 
وجدت المبادرة المغربية مكانا لها على طاولة المفاوضات، المبادرة خيار فرض نفسه في جميع المفاوضات التي تجري بين المغرب والبوليساريو، لم تعد هذه الطاولة تقتصر على مناقشة ما يسمى بتقرير مصير الشعب الصحراوي وحده بل صار الحكم الذاتي خيارا مطروحا للنقاش أيضا، وشهدت المفاوضات التي جرت في السنوات الأخيرة حضورا قويا لمبادرة الحكم الذاتي لدرجة أن التعامل معها كان بمثابة الأرضية الوحيدة للتفاوض والسبيل الوحيد لأي محادثات بين الأطراف.

 المبادرة جعلت قضية الصحراء تنتقل من قضية تصفية استعمار إلى قضية نزاع مفتعل، صنع في وقت من الاوقات لخدمة مصالح إقليمية وأخرى دولية تستغله تارة في الضغط على المغرب وتارة أخرى لتحقيق مكاسب مع الجزائر، الحكم الذاتي ازال كل المعتقدات السابقة ومنها تلك التي خلقها المعسكر الشرقي بداية السبعينات الذي تعامل مع كيان بمنطق دولة كاملة الأركان نكاية في الدول والملكيات المتحالفة مع المعسكر الغربي كما هو الحال بالنسبة للمملكة المغربية التي تعرضت للتآمر من قبل نظام القذافي وبومدين وجمال عبد الناصر دون إغفال الدور الكوبي والروسي وأيضا الأنظمة المتشبعة بالفكر الثوري.
 
الحكم الذاتي نظام الحكم وتعديل الدستور 
الطريق إلى جعل الحكم الذاتي رسميا في الدستور المغربي لابد له من المرور عبر تعديل دستوري يصوت عليه المغاربة، لذلك فالجهوية الموسعة والحكم الذاتي اختيارات تعزز الدمقراطية التي تسعى لها المملكة. إذا كان نظام الحكم الذاتي موجها للصحراء المغربية، فالجهوية الموسعة موجهة أيضا إلى 14 جهة، تكون الاستحقاقات الانتخابية فيها موحدة ومتشابهة في الكثير من الأمور.

 انتخاب البرلمان الصحراوي ورئيس منطقة الحكم الذاتي في الصحراء يخضع لمراقبة بعثة أممية، تشبه بعثة المينورسو لكن هذه البعثة ستكون محدودة الاختصاصات ومهمتها مراقبة تطبيق الحكم الذاتي بالمنطقة. نفس الأمر بالنسبة للجهوية الموسعة فهي أيضا ستعرف وجود مراقبين دوليين يتابعون هذا الشكل الدمقراطي الفريد والنموذجي هو الأول من نوعه في الدول الإفريقية والعربية ودول العالم الثالث، بما فيها الجزائر التي ستتجه إلى منح منطقتي القبائل والطوارق نظام الحكم الذاتي.

بالنسبة لصلاحيات الشأن الديني فهي بيد أمير المؤمنين، الملك يعين رؤساء الجهات ومنطقة الحكم الذاتي، وهو الضامن للوحدة الترابية للمملكة بيده كل سلطات الأمن والجيش والخارجية والحدود، ورئيس منطقة الحكم الذاتي مندوب الحكومة يحضر حفل الولاء والمناسبات الرسمية والكبرى.

تطمينات من دستورية لابد منها والمغرب يمتلك كل مقومات تنزيل الجهوية المتقدمة ونظام الحكم الذاتي الذي يمنح سكان الصحراء صلاحيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، المغرب يحدث لجنة مشتركة تسهرعلى انتخابات محلية تفرز برلمان صحراوي وحكومة محلية ورئيس منطقة الحكم الذاتي يعينه الملك، قضاء محلي وشرطة محلية.

إلقاء السلاح والعفو الشامل عن أعضاء الحركة
أهم ما يشغل بال قيادة البوليساريو في حال التوصل إلى اتفاق وقبول المشاركة في تطبيق نظام الحكم الذاتي، مصير السلاح والمليشيات والكتائب والمقاتلين، ورقة الحكم الذاتي في البند ال: 32 منها توضح أن المجلس الانتقالي المكون من أطراف ستتولى مسألة عودة الصحراويين وتتسلم السلاح وتدمج حامليه، بل هذا المجلس ستوكل له مهمة الإشراف على العملية الانتخابية بجهة الساقية الحمراء وجهة واد الذهب، ويتكون المجلس من شيوخ وأعيان مدن الصحراء والمخيمات والبعثة الأممية التي ستحل محل بعثة المينوسو مهمتها السهر على تطبيق الحكم الذاتي.
أعد المغرب كل مقومات تنزيل نظام الحكم الذاتي، ويلتزم في أكثر من مناسبة بضمان عودة جميع الصحراويين سكان مخيمات تندوف ويضمن إدماجهم الشامل والسريع والفعلي في الحياة الإجتماعية خاصة من هم مسجلين في الإحصاء الإسباني لسنة 1974.
 
الجزائر توافق على الحكم الذاتي
في عهد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون سياسة الجارة الشرقية، لم تعد عصية على الفهم كما كان في السابق، فسياسة هذا البلد خصوصا السياسة الخارجية صارت معروفة جدا، فمنذ مجيء الرئيس تبون لسدة الحكم سنة 2019 تعاقب على وزارة خارجيته أربعة وزراء وسحبت الجزائر سفراءها من خمس دول وأعادتهم من تلقاء نفسها بإستثناء السفير المغربي.

 وزارة الخارجية الجزائرية يمكن أن تصدر بيان لسبب أو من غير سبب، بل يمكن أن تصدر موقفا في الصباح وتتراجع عنه في المساء، بمعنى أخر الحكم في دولة الجزائر مزاجي وموقع وزارة الخارجية الرسمي فيه ما يؤكد هذا.

 ففي الوقت الذي تباشر فيه الخارجية الجزائرية التشدد في المواقف ضد الحكم الذاتي، فإن المزاجية والغرابة تسيطر في نفس الوقت على لغة دبلوماسية هذا البلد، التي تعبر عنها في مواقف شبه أسبوعية، ومن خلال الإحتجاج على الدول التي تدعم الموقف المغربي، هذه الدبلوماسية الغريبة توزع الاحتجاج كل حسب مكانته وقوته فالبيان الصادر ضد الدول الإفريقية المعترفة بمغربية الصحراء ونجاعة الحكم الذاتي ليس كالبيان الصادر ضد إسبانيا واللّبق ضد فرنسا وبيان التودد ضد أمريكا، حتى أن إدارة ترامب وجهت طلبا مباشرا للجزائر تدعوها فيه إلى القبول بالحكم الذاتي.

الجزائر العميقة تدعم الحكم الذاتي وتهيئ الرأي العام والداخل الجزائري لتقبل هذا، ودفعت بمحمد يسلم بيسط لتولي وزارة خارجية الجبهة وهو أحد العارفين بنظام الحكم الذاتي، ودفعت أيضا بسفير الجبهة لديها عبد القادر الطالب عمر للتواجد الدائم بالمخيمات من أجل تليين المواقف المتصلبة هناك كي تكون جاهزة للحكم الذاتي.

تكلفة دعم استقلال الصحراء عن المغرب مكلفة جدا للجزائر، فخمسين سنة من مقدرات دولة وحاضر ومستقبل وطن لأجل قضية فاشلة، لم يعد مقبولا في هذه الظرفية التي يتجه فيه المنتظم الدولي إلى إتهام الجزائر بدعم الإرهاب، وفق ملفات قضائية دولية تدين مباشرة الجزائر، دون أن ننسى ملف أربعة مواطنين قتل أحدهم وجرح الثلاثة في عمل إرهابي نفذته مليشيات البوليساريو بمدينة السمارة هذا الفعل الإرهابي انطلق من الجزائر، وأيضا دولة مالي التي لجأت بداية أبريل الماضي إلى الأمم المتحدة تشكوا الجزائر بدعم الإرهاب وهذا ما عززته أيضا النيجر وبوركينا فاصو التان استنكرتا الفعل الجزائري، دون أن نغفل العزلة الدولية التي وقعت فيها الجزائر، ملفات وأخرى لها تداعياتها على الموقف الجزائري التي لم يعد أمامها سوى قبول الحكم الذاتي والالتزام به، هذا ما يجعل الدولة العميقة في الجزائر تبحث عن مصالح البلد، بعدما لم يعد هناك داعي إلى مطاردة الوهم وتبني الفراغ، ترامب بدأ الاعتراف بمغربية الصحراء في الفترة السابقة والأن يدفع إلى طي هذا الملف شأنه شأن إسبانيا وفرنسا وعدد كبير من الدول الأوروبية والأفريقية التي تقف إلى جانب وحدة المغرب الترابية.
   
بعد 50 سنة من النزاع جاء الحكم الذاتي 
عاصمة الصحراء مدينة العيون في السابع من نونبر 2025، لن تقبل بإحتفالات أقل من الإحتفال بتنزيل الحكم الذاتي في الصحراء، هذا التاريخ هو الذكرى الخمسين لإنطلاقة المسيرة الخضراء التي استرجعت فيه المملكة لمغربية الأقاليم الجنوبية سنة 1975. مدينة العيون التي بلغت مستوى كبير من التنمية العمرانية والبنية التحتية المتطورة، تستعد للإحتفال بطريقة أخرى ليست كباقي الإحتفالات السابقة المخلدة لهذا التاريخ، العاصمة العيون والصحراء عموما ستحتفل بطريقة أخرى ومغايرة ستحتفل بتاريخ جديد أسسه الراحل الحسن الثاني وبناه الملك محمد السادس، ومن المرجح أن تشهد مدينة العيون في هذا التاريخ ضيوفا من زعماء كبار الدول والرؤساء من أوروبا وأفريقيا والدول العربية وملوك وأمراء دول الخليج وشخصيات سياسية ودبلوماسية من مختلف دول العالم.