Saturday 5 July 2025
كتاب الرأي

مصطفى عنترة: لماذا لا ننظم مناظرة وطنية حول الأمازيغية؟

مصطفى عنترة: لماذا لا ننظم مناظرة وطنية حول الأمازيغية؟ مصطفى عنترة
إنه سؤال مشروع يفرض نفسه بإلحاح في ظل التحولات العميقة التي عرفها موقع الأمازيغية داخل المنظومة الدستورية، والسياسية، والمؤسساتية ببلادنا، لا سيما بعد ترسيمها كلغة رسمية بمقتضى دستور فاتح يوليوز 2011، وما تبعه من إصدار قوانين تنظيمية تؤطر مراحل إدماجها التدريجي في مجالات التعليم، والإدارة، والإعلام، ومختلف مناحي الحياة العامة.
 
وقد تعزز هذا المسار بإحداث "المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية"، باعتباره إطارا دستوريا مستقلا يعنى بتدبير التعدد اللغوي والتنوع الثقافي، وفق رؤية تكاملية تضمن التنسيق والانسجام بين السياسات اللغوية والثقافية الرسمية للدولة.
ورغم هذا التقدم النوعي على المستوى الدستوري والتشريعي، لا تزال عملية التفعيل تعرف فجوات ملموسة واختلالات بنيوية في التنزيل الميداني، ما يثير تساؤلات متجددة تطرح بين الحين والآخر بشأن قضايا محورية، من قبيل اختيار حرف تيفيناغ، ومكانة الأمازيغية في السياسات العمومية، ومدى التزام المؤسسات بترجمتها إلى واقع فعلي.

 
وهو ما يجعل من الضروري القيام بـوقفة وطنية جماعية، تعيد تقييم المسار، وتفتح أفق التفكير الاستراتيجي، والتخطيط المحكم لتجاوز الإكراهات، في أفق تحقيق إدماج حقيقي ومنصف للأمازيغية في الحياة العامة.
 
تأتي فكرة تنظيم مناظرة وطنية حول الأمازيغية، اليوم، استجابة عقلانية لحاجة مجتمعية ملحة، وفرصة سانحة لإطلاق نقاش وطني جاد ومسؤول حول رهانات هذا الورش الاستراتيجي. فهي لحظة انتقال من سؤال الهوية والاعتراف: "ماذا نريد من الأمازيغية؟"، إلى سؤال التفعيل والنجاعة: "كيف نفعل الأمازيغية بما يخدم التنمية ويعزز العدالة اللغوية والمجالية؟".
 
إنها مناسبة لإعادة التفكير في موقع الأمازيغية في السياسات العمومية، لا كموضوع رمزي أو ثقافي فقط، بل كأداة للتنمية المستدامة، وركيزة في بناء دولة الإنصاف والتعدد والانفتاح.
 
فالأمازيغية لم تعد مجرد ملف لغوي أو ثقافي، بل تحولت إلى رهان تنموي يهم جميع المغاربة، ويتقاطع مع قضايا العدالة المجالية، والمساواة في الولوج إلى الحقوق، وتمكين المواطنين من التعبير والمشاركة بلغتهم الأصلية.
 
لقد انتقل المغرب من مرحلة الاعتراف الرمزي إلى مرحلة البناء المؤسساتي، حيث تم تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وتطوير مناهج تعليمية باللغة الأمازيغية، واعتماد قانون تنظيمي يفعل رسمية اللغة الأمازيغية في مختلف القطاعات...
 
لكن حجم التحديات المتبقية لا يقل أهمية عن تلك التي تم تجاوزها، ومنها: تفاوت الالتزام بين الجهات، بطء الإدماج في الإدارة، محدودية تكوين الأطر، وضعف الميزانيات المخصصة... وهو ما يفرض علينا مراجعة السياسات، وتحقيق التقائية بين مختلف الفاعلين.
 
يمكن ان تشكل المناظرة الوطنية محطة تأسيسية ذات أهمية استراتيجية لإعادة ترتيب أولويات ورش الأمازيغية، وتقييم ما تحقق من منجزات، وتشخيص مكامن القصور، ثم بلورة مقترحات عملية قابلة للتنزيل على أرض الواقع. وتزداد أهمية هذه المحطة إذا ما تمّ تنظيمها في إطار تشاركي واسع، ينخرط فيه مختلف الفاعلين: الحكومة، الأحزاب السياسية، المؤسسات الدستورية، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، منظمات المجتمع المدني الأمازيغي، الجامعات، مراكز البحث، والهيئات الحقوقية المهتمة بقضايا التعدد الثقافي والعدالة اللغوية.
 
إن اعتماد مقاربة تشاركية في تدبير هذا الورش الوطني يضمن توازن الرؤى، ويؤسس لتوافق مجتمعي ومؤسساتي حول كيفية تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. كما يساهم في صياغة إستراتيجية وطنية مندمجة، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية التعدد الثقافي واللغوي الذي يميز الهوية الوطنية، وتقدم أجوبة حقيقية عن أسئلة ملحة تتعلق بقضية طالما عانت من الإنكار التاريخي والتهميش السياسي الممنهج حسب تعبير الأستاذ عبد اللطيف اكنوش في تقديمه لكتاب" المسألة الأمازيغية بالمغرب.. من المأسسة الى الدسترة".
 
ولا شك أن تنظيم هذه المناظرة الوطنية، تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس، سيمنحها زخما سياسيا ورمزيا بالغ الأهمية، ويكرس مكانتها كمحطة مفصلية ضمن مشروع وطني أشمل لبناء "مغرب التعدد"، كما ورد صراحة في عدد من الخطابات الملكية التي أكدت على أن الأمازيغية ليست مجرد مكون ثقافي، بل رافعة للوحدة والتنمية والديمقراطية في مغرب المستقبل.
تعد الرؤية الملكية في هذا السياق رؤية متقدمة واستشرافية، إذ تتعامل مع الأمازيغية باعتبارها رافعة استراتيجية للتنمية المستدامة، ومكونا أساسيا من مكونات الهوية الوطنية الجامعة، ووسيلة فعالة لتعزيز الديمقراطية التشاركية، وترسيخ العدالة الاجتماعية والمجالية. فهي رؤية لا تكتفي بمجرد الاعتراف الثقافي، بل تدعو إلى إدماج الأمازيغية في صلب المشروع التنموي الوطني، بما ينسجم مع روح الدستور ويخدم المصلحة العامة.
وفي ضوء ذلك، فإن الأمازيغية اليوم لم تعد بحاجة إلى إعترافات رمزية أو تأكيدات نظرية، بل إلى إجراءات عملية ومؤسساتية ملموسة، من بينها: إرساء حماية قانونية فعالة، وتخصيص اعتمادات مالية ملائمة، وتوفير كفاءات بشرية مؤهلة، وتطوير آليات التكوين والتكوين المستمر، فضلا عن ربط الأمازيغية مباشرة بأهداف التنمية المستدامة، باعتبارها مدخلا لتعزيز الإنصاف اللغوي، وتمكين المواطن من الولوج إلى الحقوق والخدمات بلغته الأصلية، في احترام تام لمبدأ المساواة.
فالمناظرة الوطنية ـ إذا ما تم تنظيمها في إطار تشاركي حقيقي ـ قادرة على إحداث تحول نوعي في مسار النقاش العمومي حول الأمازيغية، من منطق سؤال الهوية والانتماء إلى منطق سؤال الوظيفة والجدوى التنموية. فهي مناسبة لإعادة التفكير في الأمازيغية لا باعتبارها مجرد مكون رمزي في الهوية الوطنية، بل كأداة استراتيجية في بناء مجتمع المواطنة، وتعزيز العدالة اللغوية، وتحقيق التنمية المستدامة في بعدها الثقافي والمجالي.
إنها لحظة هامة للانفتاح على مختلف الفاعلين، والإنصات إلى تعدد الأصوات والرؤى، وقراءة حصيلة المسار برؤية نقدية مسؤولة تستحضر ما تحقق، وترصد ما لم يتحقق بعد. 
فعلا، إنها محطة مفصلية في مستقبل ورش الأمازيغية، الذي لم يعد حكرا على الخطاب الثقافي، بل تجاوز ذلك ليصبح ورشا ديمقراطيا وتنمويا بامتياز، يتقاطع مع رهانات الإنصاف المجالي، وتكافؤ الفرص، وبناء مغرب التعدد والتوازن.
د مصطفى عنترة، كاتب صحفي.