تشكل موريتانيا اليوم أحد المحاور الأساسية لفهم التحولات الجيوسياسية في منطقة المغرب الكبير والساحل والصحراء. فرغم محدودية قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية مقارنة بجيرانها، يمنحها موقعها الجغرافي المهم مكانة لا يمكن تجاهلها في معادلات الأمن والاستقرار الإقليمي. وتتزايد هذه الأهمية في ظل تصاعد التنافس بين المغرب والجزائر، وتنامي التهديدات في منطقة الساحل، وتزايد الرهانات الاقتصادية المرتبطة بالمعابر البرية والطرق التجارية جنوب الصحراء، إلى جانب المبادرات الأطلسية المختلفة التي تجعل من هذا الفضاء ممرا اقتصاديا دوليا استراتيجيا.
رغم محورية موقعها الجغرافي، ظلت موريتانيا، في الغالب، على هامش النقاشات الكبرى المتعلقة بإعادة تشكيل الفضاء المغاربي أو استراتيجية الأمن في منطقة الساحل. ويرجع ذلك إلى غياب رؤية طموحة وطنية يمكنها أن تفرض نفسها على المستوى الإقليمي. كما أن تفضيلها لسياسة النأي بالنفس أضعف حضورها السياسي في المعادلات الجيوسياسية المغاربية. فقد اتبعت موريتانيا منذ استقلالها دبلوماسية حذرة ومتوازنة، حيث تسعى إلى تفادي الاصطفاف المباشر مع أي من القوى الإقليمية المتنافسة، لا سيما المغرب والجزائر. تقوم هذه السياسة على الحفاظ على علاقات جيدة مع كل الأطراف، وتجنب الدخول في مواجهات مباشرة أو مواقف حاسمة قد تدخلها في أزمات دبلوماسية ثنائية أو تجرها إلى صراعات تتجاوز قدراتها المحدودة.
بالنسبة للمغرب، تعد موريتانيا دولة محورية في أمنه الاستراتيجي وعمقه الجنوبي. ومن ثم، فإن ضمان استقرارها وتعزيز علاقات التعاون معها ضروريان لتأمين مصالح المغرب في الصحراء، وتعزيز انفتاحه على غرب إفريقيا وجنوب الصحراء. وقد ازدادت أهمية هذا البعد منذ إعادة فتح معبر الكركرات الحدودي وتأمينه عسكريا في نوفمبر 2020، والذي أصبح شريانا حيويا للتجارة المغربية مع غرب إفريقيا، وقد أثبت المغرب أهميته من خلال تأمينه العسكري والسياسي، وهو ما جعل موريتانيا عنصرا أساسيا في ضمان انسياب حركة البضائع والتجارة، في ظل تزايد أهمية الممرات البرية المغربية نحو إفريقيا.
كما أن مشروع ميناء الداخلة الأطلسي ومشاريع الربط الطرقي والكهربائي تسعى إلى تعميق هذا الارتباط الاستراتيجي بين البلدين. لكن، ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، فإن العلاقات الثنائية ما تزال محكومة بالحذر، بسبب حسابات سياسية ومواقف رمادية من ملف الصحراء. ويمكن القول إن موريتانيا، في موقفها الحالي، لا تدعم صراحة لا مقترح الحكم الذاتي المغربي ولا الأطروحة الانفصالية التي تتبناه جبهة البوليساريو، بل تعتمد نهجا دبلوماسيا يقوم على الحياد والدعوة للحل السلمي، دون تبني أي من الرؤيتين. وإن كان هذا الخيار يضمن الاستقرار الداخلي ويتماشى مع مصلحة المغرب في الحفاظ على استقرار موريتانيا، إلا أنه يحد من قدرتها على أداء دور إقليمي فاعل. ومن ثم، يبقى التحدي الدائم أمام موريتانيا هو الحفاظ على توازن علاقاتها مع القوتين الإقليميتين الأساسيتين، المغرب والجزائر، مع السعي لتفعيل حضورها الإقليمي. فالحياد التام في ظل استقطاب إقليمي حاد لا يكون دوما مصدر قوة، بل قد يتحول إلى نقطة ضعف تُبقي موريتانيا على هامش المبادرات الإقليمية الكبرى.
لا شك أن موريتانيا اليوم تقف أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة دورها الإقليمي، خاصة في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة غرب إفريقيا والساحل، والأزمة الراهنة بين الجزائر ودول الساحل وخاصة مالي، ، ولكن الأهم هو الاستراتيجية المغربية الجديدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء. غير أن هذه الفرصة تظل رهينة بقدرة موريتانيا على تجاوز منطق الحياد التقليدي، وبناء رؤية جيوسياسية فاعلة ومبادِرة.
إن تطور العلاقات مع المغرب قد يشكل مدخلا محوريا لإعادة تعريف دور موريتانيا كجسر استراتيجي، ولكن أيضا كفاعل أساسي في المنطقة، خصوصا إن تم تعزيز مشاريع الربط والبنية التحتية والدخول في مشاريع استراتيجية مع المغرب.
سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس
