الاثنين 24 مارس 2025
فن وثقافة

مريم أبوري: أوبرا الرثاء.. لو يخجل الموت قليلا

مريم أبوري: أوبرا الرثاء.. لو يخجل الموت قليلا مريم أبوري

قد يرى البعض في هذا العنوان جرأة تمس قدسية الموت، بل قد يذهب البعض إلى القول إنه مساسٌ بالقدرة الإلهية التي تحدد لحظة انتهاء رحلة الإنسان الأرضية إيذانًا ببدء رحلته الأخروية. وقد يتساءل متبرمًا: كيف يُطلب من الموت أن يخجل؟ لكن من يعرف صوفية الكاتب عبد العزيز كوكاس، سيدرك أن العبارة ليست تمردًا، بل هي تأملٌ عميق في سطوة الفقد وتداعيات الغياب.

إن كوكاس ليس مجرد كاتبٍ عابرٍ بين الكلمات، بل هو رحّالة في ملكوت المعاني، يسير على هدى قلبٍ طفولي لم يفقد دهشته، وعقلٍ ناضج لم يكتفِ بسطحية الإدراك. إنه صوفيٌ يتأمل الوجود بعين عاشق، يحاور الزمن كمن يطلب مهلةً قبل افتراقٍ محتم، فيسائل الموت عن قسوته، ويرجو منه أن يُبدي شيئا من التريث قبل أن يختطف الأحبة.

 

الرثاء الذاتي: حين يغني المرء لحظة فنائه

أن يتأمل الإنسان الموت أمرٌ مألوف، لكن أن يرسم مشهد رحيله، أن يتخيله بتفاصيله، أن يسائل اللحظة التي تتلاشى فيها الحياة من بين أصابعه، فذلك ضربٌ من الشجاعة التأملية التي لا يُقدم عليها إلا قلة. في "الرثاء الذاتي"، لا يكتب كوكاس عن الفقد فحسب، بل يخوض تجربة نادرة في الأدب العربي: أن يكون الناعي والمنعي في آنٍ واحد. يتجرد من صوته المعتاد ليصبح راويًا لسيناريو رحيله الشخصي، فيرسم صورةً تتشابك فيها الحقيقة بالخيال، والوجد بالحكمة، ليجبر قارئه على مواجهة سؤالٍ قد فرّ منه طويلًا: كيف سأرحل أنا؟

 

خطاب الوداع الأخير: حين يتمزق الطفل في قلب الرجل

في رثاء الأب، تأخذ الكلمات طابعا أشد مرارةً، ليس لأنها تتناول فقدان الوالد فحسب، بل لأنها تكشف دهشة اليتم على كِبَر. أن يفقد الإنسان أباه وهو طفلٌ، فذاك يتمٌ تسنده براءةُ الصغر، أما أن يفقده وهو في رجولته، فذاك فقد يهوي بالنفس إلى هاوية الوحدة والتعرّي أمام الزمن. يخاطب كوكاس والده كمن يوبّخه على الرحيل، وكمن يعاتب الغياب الذي لا عودة منه:

"لماذا تركتني على رصيف حقل الأيام، مثل وردةٍ مهملةٍ في عزّ هيجان الربيع؟ هل اعتقدتَ أنك نبيٌّ أكمل رسالته فرحل دون أن يترك ذريةً تحمل أثره؟"

 

بكى غياب الأم، وما أقسى اليتم على كبر!

لكن الفقد الأعظم، الوجع الأشد فتكًا، لا يأتي إلا حين يُتلى اسم الأم في مقام الرثاء. إن كانت الأم وطنا، فإن رحيلها نفيٌ قسري إلى المنفى السرمدي. حين كتب كوكاس عن والدته، لم يكن يبكيها بقدر ما كان يعيد تشكيل حضورها. فاطمة فنيدي، التي كانت ملاكا يمشي على الأرض، لم تكن مجرد والدة، بل كانت قصيدته الوحيدة، حتى إنه، رغم كونه صاحب ديوان شعري، أسقط صفة الشعر عن كل ما كتب، لتبقى والدته وحدها القصيدة الأسمى، القصيدة التي لم تتكرر، ولن تتكرر.

 

أغنيات الغائبين: حين يصبح الرثاء نشيدًا لا ينتهي

لا يتوقف كوكاس عند فقدان والديه، بل يرفع صوته بنشيد وداعٍ طويلٍ لكل من تركوا أثرًا في حياته. يكتب كما لو أنه قائد فرقةٍ موسيقيةٍ يحيي حفل تأبينٍ لا ينقضي، لكل من مرّوا في دروب ذاكرته ثم اختطفهم الموت دون أن يخجل.

- يغني لرحيل محمد سبيلا، الذي اكتشف معه أن الموت ليس قاسيًا على الراحل بقدر ما هو موجعٌ لمن تركه خلفه.

- ينشد لأخيه هشام، زارع البسمة في قطرة الندى.

- ينوح لـ"با عمر"، زهرة الأيام الأخيرة، ولإدريس الخوري، المغربي العصّي على الترويض، ولعبد الجبار السحيمي، الحكيم الصوفي.

- يرثي نور الدين الصايل، الذي علّمه كيف تتحول الصورة إلى لغةٍ تتحدث ببلاغة العشق.

- يكتب عن عبد الحميد بنداوود، صاحب "موت أجلّ"، وعن إدريس بن زكري، الذي مات قرير العين، لكنه لم يمهل جسده حتى ينتقل إلى آخر الليل.

- يغني لفقيد الصحافة عبد الكبير العلوي الإسماعيلي، الذي عاش قلقًا ومات قلقًا.

- ينحني احترامًا لذكرى فاضل العراقي، الذي مات جسده، لكن إنسانيته بقيت وسما خالدا.

- لكنه يصرخ في وجه الموت حين يرثي أحمد جواد، المسرحي الذي أضرم النار في جسده قبالة وزارة الثقافة، احتجاجًا على التهميش، كأنما أراد أن يقول: حتى الموت يمكن أن يكون صرخة احتجاجٍ أخيرة!

 

"لو يخجل الموت قليلاً": أوبرا الحزن العذب

هكذا، نكون قد حضرنا حفلا جنائزيًا يتجاوز الرثاء التقليدي، إلى مأدبة حزنٍ فنية، حيث الموت لا يُستقبل بالصمت، بل بالنشيد. هذه ليست مجرد مراثٍ، بل أوبرا كاملة، كتبها كوكاس بمداد الدموع، ولحّنها بأنين الروح، وأنشدها بصوت القلب الذي لا يزال يفتقد أصحابه.

إنه لا يرثيهم لأنه يريد استدعاءهم، بل لأنه يريد الاحتفاظ بأثرهم في روحه، ولأن الغياب لا يكون مطلقًا إلا حين ينسى الأحياء من رحلوا.

"لو يخجل الموت قليلاً" ليست مجرد كتاب، بل تجربة شعورية عميقة، تنقل الرثاء من كونه مجرد نحيب، إلى كونه سؤالًا فلسفيًا عن معنى الغياب، وعن قدرة الكلمات على إبقاء الراحلين بيننا، ولو في سطور الذاكرة.

هنيئًا لنا بهذا النص، الذي يجعل الحزن أكثر رفعة، وأكثر قدرة على البقاء.