تماما كما تفعل الحيتان، والدلافين، والنسور، حين تختار الوقوع من علوّ شاهق لتصطدم بالأرض وتموت، ينتحر كتاب مصر ومثقفوها هذه الأيام جماعات، وتنتشر رائحتهم في كل مكان. فبعد موجة الكتاب الذين توقفوا عن الكتابة للصحف، ومنهم من هاجر إلى خارج مصر، مثل بلال فضل، وعلاء الأسواني، وغيرهما، والإعلاميين الذين أوقفوا برامجهم التلفزيونية والإذاعية، واعتزلوا العمل الصحفي لأجل غير مسمّى، على غرار باسم يوسف ويسري فودة وريم ماجد، بدأت المؤسسات الثقافية تلحق بركب المتنحين جانبا، والمحبطين، والمنتحرين طوعا، هربا ممّا آلت إليه الأوضاع في مصر.
وها هي “المورد”، واحدة من أكبر المؤسسات الثقافية في العالم العربي، التي ترعى العديد من البرامج الثقافية والتدريبات، تعلن توقف برامجها وأنشطتها بمصر في المرحلة الراهنة. وأصدرت المؤسسة بيانا قالت فيه: "سنواصل دعمنا للثقافة المستقلة في بلدان المنطقة العربية، ونأمل أن تسمح الظروف بعودة نشاطنا في مصر في أقرب وقت ممكن".
لم تعلن المؤسسة أسباب توقفها، لكن وفق الأهرام الإنكليزية، "فإن القرار يأتي في الوقت الذي يصاغ فيه قانون جديد، غير دستوري، يقصد به عرقلة منظمات المجتمع المدني، التي تعمل كرقيب، وتحرض على حرية التعبير والنقد"، وأضافت الصحيفة: "ومن المتوقع أن يتضرّر عدد من منظمات المجتمع المدني من هذا القرار".
منذ أيام نشر تامر أبوعرب، الصحفي بجريدة "المصري اليوم" مقالة مؤثرة بعنوان: “نعم إني خائف”، عدّد فيها، أكثر من سبب يدعوه للخوف على أمنه وسلامته، من بينها، بيان رؤساء التحرير “الفضيحة” الذي صدر إثر أحداث سيناء الأخيرة، والذي صبّ في ضرورة مؤازرة الحاكم والالتفاف حول الدولة، وتصريحات لمسؤولين في مناصب عليا تدعو “لتنحية” حرية التعبير جانبا "لحين وقوف الدولة على قدمين ثابتتين"، ولم يقل المسؤول صاحب التصريح، كم سيستغرق وقوف الدولة على قدميها.
كتاب مصر خائفون، ومن حقهم أن يفعلوا، فما يحدث في مصر مثير للخوف فعلا، رغم إيمانهم بالدولة ومعاداتهم للإرهاب ومن يقف وراءه، والخوف طال الجميع، طالنا نحن أيضا خارج مصر، إننا خائفون على بلد حي عرف بحركيته الثقافية الصاخبة، ودور نشره ووفرة مبدعيه، خائفون على موروث زاخر وتاريخ عريق من الفن والأدب والشعر والمسرح والسينما، وعلى بلد قاد الحركة الإبداعية في العالم العربي لعقود، وكان منارة وملجأ للمبدعين من كل مكان.
(عن "العرب" اللندنية)