السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: نهاية المجتمع ...

عبد الحميد جماهري: نهاية المجتمع ...

المجتمعات أيضا تعرف النهايات، ليست الدول والإمبراطوريات والأفراد وحدها تموت. بل أصبح، في منطق المسولة الاجتماعية وعلم السياسة أن ننعى المجتمع كما ننعى المواطنين الصالحين.

وقد آمنا طويلا بأن المجتمع دائما عل حق ، وأنه طيب بالضرورة والدولة هي التي تفسده.

وجعلنا منه كائن فطرة لا يأتيه الوسواس إلا من الدولة والوجه الآخر للشيطان.
وكانت الشيطنة تتم باسم المادية الجدلية، حينا كما تتم باسم السلفية اللاجدلية، أحيانا كثيرة.

وإذا لم يكن من عادة السوسيولوجيا التنبؤ بالمستقبل، فتلك عادة تركها علم الاجتماع للتنميط الافتراضي modelisation -وهو ما يكون عادة سببا في إثارة غضب محبيه من علم الاجتماع- فإن السوسيولوجيا لا تستبق تطور السلوكات وأنماط التعايش والعلاقات الاجتماعية.
العالَم الاجتماعي لا يتكرر بنفس الطريقة النمطية، لأنه عميق في تاريخانيته، على حد قول سيلين براكونيي وجان إيف دورماجين، صاحبي كتاب ديموقراطية العزوف، أو الامتناع عن المشاركة الانتخابية، لكن ذلك لم يمنع زميلهما وأستاذهما الشهير آلان تورين من أن يتحدث عن نهاية المجتمعات، فعندما تنبأ السوسيولوجي الشهير بنهاية المجتمعات شتنبر 2013، عن دار سوي الفرنسية، كان يبني نبوءته على كون الأزمة التي يعيشها العالم، منذ مدة، أدت إلى أن كل المؤسسات، من العائلة إلى المقاولة، مرورا بالمدرسة والسياسة والمدينة، ونظام الحماية الاجتماعية، أصبحت في وضع العاجز عن متابعة التطورات المتلاحقة للمجتمعات، وما تفرضه آفاق العولمة فلم تعد قادرة على أن تعكس تطلعات الأفراد المواطنين وتموقعاتهم الجديدة..

العالم آلان تورين يرى أن المجتمعات التي تنهار على نفسها وبنياتها تفقد الشرعية والفعالية، لكنه في المقابل يؤمن بأن كل نهاية هي أيضا بداية، وهو ما يهمنا، لأنه نظر إلى الربيع العربي، باعتباره جزءا من حركة عالمية تعمل على أن يكون لها وزن في تحديد المستقبل، والضغط من أجل أن يكون له تعريف محدد أو على الأقل ملمح متجدد.. 

حقيقة الأمر إن مؤسسات المجتمعات العربية، دخلت السباق نحو تجديد وجودها وهي منهارة، ولم تعد المؤسسة التعليمية تنتج النخب، ولا الأجيال التي تؤمن بأن البلاد أكبر من الحاكم، أو تنتج ما هو أهم، أي أجيال المعرفة المتحررة والقادرة على أن تنزع عن عالمنا العربي الإسلامي مسحاته السحرية، الممزوجة بمذاق الدكتاتورية. نحن الأمة التي تجيد إنتاج الدكتاتور الساحر، أي ذلك الكائن الذي عاش في المجموعات البشرية البدائية قبل مجيء الحضارة، ونحن نعيش في عز الألفية الثالثة والنخب التعليمية، في جزء منها، إعادة إنتاج النمط الغارق في التقليدانية، واجترار الفقه الطوعي للعبودية المقننة، وكان الفقيه هو وجه الخلاص من حياة مدنية تعرض صاحبها دوما للتوبيخ والتنبيه، إن لم نقل للترهيب، وما بين الدكتاتور الساحر، والفقيه المنقذ، تفرز المؤسسة التعليمية اليوم الاستعداد الثقافي لتقبل الحاكم الفيلسوف القادر على إسعاد شعبه بالرغم من أنفه، ولو بتقتيله والبناء المؤسساتي، التشريعي والحزبي والحكومي، قصر من ورق، وازدادت هشاشته، مع انهيار قدرة المجتمعات على العيش سويا، سواء في داخلها أو على حدودها وهو، في محصلة التراكم، يفرز ما تفرزه مؤسسة التعليم والتربية..
في الفضاء السياسي العام لا يمكننا الحديث عن أنظمة حماية مجتمعية في الكثير من بلدان الربيع العربي ، بل إن الأزمة أصبحت فيها مضاعفة بفقدان حماية المواطنة، والحق في الحياة نفسه أصبح مغامرة يومية ولا أحد يعرف كيف يمكن أن نعيد بناء نمط جديد من الحياة الجماعية تحت الحراب والقنابل، ولا تحت الوجود الافتراضي للدول، ويحق للمتشائمين منا أن يشككوا في قدرة المجتمعات على أن تعيد بناء ذاتها، بعد أن حرصت الدول كجهاز وليس ككيان، في مرحلة سابقة ، على تحطيمها وتفكيكها وتقزيم أدوارها، ثم العمل، في مرحلة ثانية على عدم القدرة على حمايتها، بل وصل الأمر إلى أن أجهزة الدول أصبحت تهديدا حقيقيا للمكونات الأخرى في المجتمعات.

إن الحل يمكن، بالنسبة لنا، في صناعة نموذج قائم بالأساس على الدفاع عن الحقوق الإنسانية بعيدا من منطق المصالح والسلط التي تتآكل ويتآكل معها المجتمع.. 

قديما صاح نزار قباني متى يعلنون موت العرب؟ 

واليوم نعلن بغير قليل من الجدية، بأن نهاية المجتمعات العربية، حتى بعد أن جربت حظها في التاريخ مع الربيع الثوري والديموقراطي، موجودة، للأسف في جينات الدولة وأجهزتها الرادعة منذ البداية، لكنها زادت مع تفكك المؤسسات الحديثة العهد في الفضاءات العامة من المدرسة إلى الدولة نفسها وتراجع تأثيرها. علاوة على تراكم اقتصاد الريع مع التوزيع الطائفي للثروة وحرمان ملايين المواطنين من عائدات الثروات الوطنية .

وكما يحدث في الافلام البوليسية، فإننا في كل نهاية أو قتل نبحث عن الدافع ونطرح السؤال الذي ذرحه شارلوك هولمز مرارا: من له مصلحة في موت المجتمع؟..

ومن الغريب أن الذي له المصلحة في موت المجتمع هو دائما .. رجل السياسة الذي يحلم باليباب سيدا. والسياسة هي الدافع الأول وراء قتل المجتمع.