السبت 9 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

تلك سيرته.. وأحمد الزايدي حاضر في كل شيء

تلك سيرته.. وأحمد الزايدي حاضر في كل شيء

بعد تلقي الخبر والتأكد من رحيلك، تناسلت وتواترت الأسئلة، وتمترست في الحلق غصة عسيرة، اجتهدت الأخيلة في نسج حكايات وتفاصيل عن اختفائك التراجيدي، ومهما تعددت الأسباب والملابسات والتكهنات، فإن الشيء المؤكد هو انفصالك عنا وعن الوطن وعن بسطائك وأقربائك في رمشة عين. ألهذه الدرجة تحبك الأرض التي ولدت فوق أديمها وتماهيت بترابها وهوائها وناسها فأصرت على اختطافك، وكأنها كانت تخشى أن تموت خارج مجالها، فتفقد فيك ابنا بارا رابط في الخندق الأمامي دفاعا عن كبرياء وكرامة  وقيم من أجمعوا على دماثة خلقك وتواضعك وبساطتك وعمق إنسانيتك وصلابتك.

كان من الصعب أن أقتنع بصحة الخبر، لم استوعب رحيلك بتلك الطريقة العبثية، وأنت المنحدر من سلالة الأمل والحياة، لكن يبدو أن "للأبطال التراجيديين قدر يشاكسهم ويتربص بخطوتهم الأخيرة نحو باب الوصول ليحرمهم من الاحتفال بالنهاية السعيدة بعمر من الشقاء والتضحية، لأن الزارع في الحقول الوعرة لا يكون دائما هو الحاصد، كما قال الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش وهو يرثي ياسر عرفات.

ذات مساء أرخت فيه السماء غيومها، وكانت الأرض حزينة وواجمة وجامدة، مطر متردد يسقط ويختفي وأصدقاء من كل الأفاق يتحسسون قلوبهم من هول الصدمة والرحيل الجارح. في الطريق إلى بوزنيقة رفقة حسن طارق وكان الظلام عباءتنا الواسعة الممتدة حتى النهايات الأسطورية، كنا نطرح أسئلة وجودية، وفي آخر المطاف كنا نستسلم للقدر.

لا أحد كان يرغب في رحيلك المفاجئ يا احمد، وكأن هذا الموت كان جاهزا ومرتبا ،لا المنطق ولا التفسير العقلاني بإمكانهما الصمود في وجه ما حدث. هل تعبت ومللت واحتلك الضجر، فتشاءمت ويئست فقررت التحرر من أعباء السياسة والتخلص من التأويلات الماكرة. غير أنك لست كذلك، فأنت منذ افتتانك بالشاشة الصغيرة وإعلان انتمائك إلى مهنة المتاعب، شرعت في رسم خريطة أحلامك، وتحديد هويتك وإعلان إصابتك بمرض حب الوطن الذي تمنيت أن لا تشفى منه، وأشهرت وضوحك وانتصارك لكل ما هو إيجابي وإنساني ومهني. وفي قراءة مسارك السياسي والتزامك الحزبي، ما يكفي من الأدلة  للتأكد من واقعيتك ونباهتك، حيث كان بصرك كبصيرتك يخترق الوقائع والواقع حتى ولو كان مثل الضباب الكثيف الذي يغطي من حين لآخر بلدتك بوزنيقة.

ليلة الأحد حيث لم يتأخر أحد ،كان  منزلك المسكون بصدى الأمواج، مكتظا بالقادمين من كل المواقع والمنتمين إلى مختلف المرجعيات والإيديولوجيات جاء  الجميع مترعين بالألم وحرقة الفراق القسري، عناق ومواساة وبكاء ودموع وذهول، لم يثق أحد في أن أحمد رحل. ورغم الأمطار الغزيرة التي كانت تكتب مرثيتك، كان الخارج مؤثثا بجموع غفيرة أتت لتؤكد حبها ووفاءها لك يا حمد فأنت الذي حرضتها على حب الوطن والحرية والعدالة، وزرعت فيها القيم النبيلة والمبادئ السامية.

كان البحر نظرتك الأخيرة، لم يفارقك الماء الذي كنت تعشق الارتماء في أحضانه، فحتى رحيلك كان مائيا، كانت ثقتك فيه جارفة، فجرفتك مياه وادي الشراط دون شرط، أهو القدر حريص لهذه الدرجة على خطفك أو إخفائك  في حفرة مائية  خشية آن يمسك مكروه ؟

تأكد يا أحمد، أن رحيلك استثنائي بكل المقاييس فالشعور الحاد بغيابك لن يتبدد سريعا،ولن يستسيغ أوفياؤك وأصدقاؤك وبسطاؤك هذا المصاب الجلل، لقد خلف رحيلك في النفوس حزنا لا يردع، من سيتحدث عن أوجاع الوطن، من سيكتب تفاصيل المدينة؟ من سيحرص أحلام قبيلتك الإعلامية والسياسية؟من سيحول السياسة إلى ممارسة تقاوم الانحطاط وتستعصي على الميوعة؟ من سيمتهن الآمل  ليتصدى لليأس؟

وكأن رحيلك أردته  انتصار على التأويل السيئ لفهم مقاصد السياسة، وردا صريحا على ما أسميته بالانحراف والانزلاق في إحدى وصاياك، عندما اقترحت نفسك مطهرا لتجاوز خيبة السياسة وسطوة المصالح وجنون المنافع وإغراءات المواقع.

طقوس جنازتك ومواكبها الرهيبة يا أحمد، برهان قوي على مكانتك العظيمة وسمعتك الطيبة وتجذرك في قلوب وعقول مواطنيك من كل الشرائح، كانت مدينة بوزنيقة حالة استثنائية ،لم تألف في تاريخها تدفق سيول من البشر وار تال من السيارات، اختنقت المسالك تماما وبدت الشوارع قاتمة والوجوه واجمة، خرج سكان مدينتك التي عبدتها وعشقتها عن بكرة أبيهم اصطفوا بشكل حضاري على جنبات الشوارع التي عبرتها ليبكوك في صمت وقد رأوك صاعدا إلى الله وكانت الغيمات تتهافت عليك.. ملكا حلقت في الأعالي لتستقر هناك وردة لن تذبل، نسيت أنك رحلت.. كنت أكثر حضورا وكنت النور الذي يتوهج.. هناك في الفراديس تأمل على مهل ودن تشويش هذا الحب الشاسع الذي يعتبر عقدا أخلاقيا تجاهك، فحيثما حضرت كنت تشيد صرحا للأمل وتجترح لغة تعيد الدفء والحياة حتى لليائسين والجامدين.

ما أقساك أيها الموت.. تأتي دون استئذان لتخطف منا إنسانا كان ملكية لغيره.. ألا تدرك حجم الصدمات التي تخلفها  أيها الموت؟ في المقبرة – إقامتك الأبدية وفي تراب الجماعة التي لقيت فيها حتفك يا أحمد، كنت ارصد تلك الجماهير الغفيرة.. الكل كان هناك، دولة وحكومة وبرلمان ومجالس ومؤسسات وطنية وأحزاب وصحافة ونقابات ومثقفين ومناضلن وخصوم ومكونات المجتمع المدني ومواطنين. تذكرت يا أحمد وقتئذ وبشكل عفوي جنازة القائد الراحل عبد الرحيم بوعبيد الذي كنت خصصت له جزأين في البرنامج الوثائقي "وجوه سياسية" الذي  كنت أعده في القناة الثانية ومما قلته في نهاية الجزء الثاني "هل كان عبد الرحيم بوعبيد صدفة أم ضرورة تاريخية؟. الشيء المؤكد هو انه كان يملك من الصفات والمؤهلات ما جعله يحتل الواجهة. عندما شيعته الجماهير إلى مثواه الأخير بكت وأطلقت الشعارات والزغاريد لتقاوم لحظة الحزن. توحدت المواقف والألوان الإيديولوجية في جنازته. لا يمين ولا يسار، لا سلطة ولا معارضة "هذا بالتأكيد ما ينسحب عليك  كنت كبيرا، والكبار لا يكررون ولا يحل محلهم أحد، وهنا  مكمن الخسارة.. الخسارة المطلقة. لأننا سنفتقدك في اللحظات الحرجة، حيث الحاجة ماسة إلى الحكمة والإنصات والرأي السديد. وأنت يا أحمد كنت فارسا في الميدان وكنت النموذج والمثال، ولم تتوان عن التباهي والافتخار بانتمائك إلى مدرسة الأخلاق والفضيلة ونكران الذات، وانك ستبقى وفيا لمبادئ الاتحاد وقيمه وان هاجسك كان هو الدفاع عن المشروعية ومناهضة الإقصاء، وألححت على أن خلافك مع خصومك، هو خلاف فكري له علاقة بمنهجية التدبير السياسي.

أحمد الآن هو أسير طمأنينته العميقة.. من مرقده هناك قرب حقول العنب، يشهر وصاياه، يرسل رسائل في كل الاتجاهات، ليمحو هذا الفارق اللفظي والدلالي بين نبل وابتذال السياسة، بين انحطاط وسمو الأخلاق، بين الوضوح والغموض في المبادئ والأفكار والقيم، بين الهدوء والرعونة بين الاختلاف والتنميط بين القبول والإقصاء....

من يملك كل هذه القوة والقدرة على تحويل مدينة إلى مهرجان للوفاء.. الوفاء كما اعتنقته على امتداد عقود عقيدة ومذهبا وقناعة، وهاهو طيفك في كامل أناقته يتجول في ضمائرنا، وكلماتك ونبرات صوتك مازالت طرية وحية في الذاكرة كما تناهت إلى أسماعنا وأنت في عز بهائك وعطائك الإعلامي. وصورتك التي أبت إلا أن تحتل نفس المقعد الذي اعتدت الجلوس عليه في البرلمان، هي نفس الصورة التي كنت تطالعنا بها عبر الشاشة، تغير الموقع لكن الصوت هو هو، والصورة هي هي. والجوهر هو هو.

أتذكر يا أحمد كم كنت وفيا لمهنتك الأولى، كان حلمك الأكبر أن ترى مهنة المتاعب تزهر في وطنك، وأن ترى قبيلة الصحافيين تنعم بشروط مريحة لتمارس مهنتها في بيئة سليمة تضمن الكرامة وترسخ الحرية والاستقلالية والمهنية. كان طموحك بلا حدود في نادي الصحافة رفقة آخرين من كل المؤسسات والحساسيات، ورغم أن فكرة خلق فضاء للصحافيين أكثر انفتاحا بعيدا عن تشنجات الايدولوجيا وحسابات السياسة ودوغمائية النقابي، كانت خطوة غامضة ومكتنفة بكل أسباب التعثر لدواعي كثيرة، فإنك آمنت بالفكرة وتسلحت بالأمل وركبنا نفس المركب. كنت الربان الذي كان يبحر في اتجاه المستقبل، غير عابئ  بتقلبات أحوال الطقس السياسية  وما كانت  تحمله من عواصف واعصارات في زمن الجمر والرصاص. كنت.. وكنا  نرسم خريطة جديدة للمهنة. استحضرنا تجارب دولية عديدة، وأردنا اعتمادا على عزائمنا  وقناعاتنا وجنوننا أن نؤسس النموذج المغربي في هذا المجال وكذلك حدث. كانت الولادة عسيرة وصاحبتها أوجاع وآثار جانبية، لكن رغم قلة الإمكانيات فرض النادي نفسه وصار فضاء للحوار والالتقاء والنقاش. فاستضفنا شخصيات من عيار عبد الله إبراهيم ومحمود درويش وإميل حبيبي وعبد الرحيم هروشي وسميح القاسم ونايف حواتمة. وهناك أسماء أخرى لم تسعفني الذاكرة على استحضارها. وسرعان ماتحول نادي الصحافة عندما تمكن من العثور على مقر دائم، إلى  فضاء بديل لكثير من الجمعيات والمنظمات والكتاب والمبدعين. كان النادي عنوان مرحلة وعلامة على المصالحة الممكنة بين الصحافة والمجتمع. وانتصارا للاختلاف والانفتاح والحرية والاستقلالية وهذا ما جسده تذكار تدشين النادي، وهذه المبادئ حرصت على ترجمتها في مسارك السياسي وعلاقاتك الإنسانية والاجتماعية.

ما كتبته عن رحيلك يا أحمد ليس تفاعلا عاطفيا ساذجا وليس انخراطا في بكائية أو جنائزية تلهث وراء مصلحة ما، إنه عربون اعتراف بتميزك واستثنائيتك وطيبوبتك وإنسانيتك ودماثة خلقك ووطنيتك ووفائك لما صغته من قناعات وأفكار منذ ريعان شبابك الإعلامي والسياسي. إنني عرفتك منذ أكثر من عشرين سنة واشتغلنا سويا وناقشنا كثيرا من شجوننا وقضايانا المشتركة.كنت غالبا ماتصفني بالمشاكس.. كانت هذه الكلمة الشفرة تعني الشيء الكثير بالنسبة لنا.

أيها الأحمد ستظل مقيما في القلوب والعقول. فكل الذين أحبوك إنسانا رائعا وإعلاميا طلائعيا،وقدروك مناضلا سياسيا ملتزما ومنفتحا، سيحرصون على أن تبقى حيا فيهم متجولا في دمهم.فتلك سيرتك وستظل حاضرا في كل شيء.

 "ياأحمد السري مثل النار والغابات

أشهر وجهك الشعبي فينا

واقرأ وصيتك الأخيرة "1

وكأن لسان حالك يردد ماقاله القيادي عبد الرحيم بوعبيد قبل رحيله "كنت معكم ..إننا نشعر جميعا باطمئنان على أن ما أسديناه ليس هو الكمال،ولكن ما أسديناه خرج من صميم الفؤاد طاهرا نقيا.نريد خدمة الشعب والأمة والمصلحة العامة"

1- من قصيدة أحمد الزعتر للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش